للوهلة الأولى، يوحي موقف وزير الأمن أفيغدور ليبرمان عن أن إسرائيل «لا تريد تدهور الوضع (على الجبهة الشمالية)، أو التخلي عن أي مصلحة إسرائيلية... عدم التسليم بتمركز إيراني في سوريا، وبالتأكيد عدم التسليم بنصب صواريخ موجهة ضد إسرائيل»، كما لو أنه مجرد تكرار للموقف التقليدي، وهو في جانب منه، كذلك. لكن توقيته وسياقه يؤشران إلى أكثر من رسالة ومعنى يتصلان بالمرحلة التي بلغتها استراتيجية «المعركة بين الحروب» التي تنفذها إسرائيل على الساحة السورية، ويطرحان تساؤلات عن المدى الذي بات بوسع إسرائيل الذهاب إليه، في الجمع بين هذين الحدين.
يأتي موقف ليبرمان بعد نشر «فوكس نيوز» تقريراً عمّا قالت إنه «قاعدة صواريخ إيرانية يجري بناؤها قرب دمشق»، وهو ما نفته طهران. ويدفع نشر مثل هذا التقرير إلى التساؤل عمّا إذا كان ذلك جزءاً من التمهيد لاعتداء إسرائيلي لاحق، سواء ضد هذه الأماكن أو غيرها. وسبق أن قامت إسرائيل بخطوة مماثلة عندما استهدفت بلدة الكسوة قبل أشهر، بعد تقرير إعلامي مشابه. مع ذلك، أوضح معلق الشؤون العربية إيهود يعري (في القناة 12) في التلفزيون الاسرائيلي، بأنه «لسنا متأكدين حالياً من أنه يجري الحديث عن قاعدة إيرانية أو شيء آخر» شمال دمشق، في مكان يسمى جبل الشرقي.
يأتي موقف ليبرمان بعد الصدمة التي تلقتها إسرائيل في أعقاب إطلاق عشرات الصواريخ السورية في أجواء فلسطين المحتلة، وبعضها عبر أجواء تل أبيب باتجاه البحر، وأخرى أسقطت طائرة «اف – 16، سوفا»، رداً على اعتداء على مطار t4. ومن هذه الزاوية، يؤكد ليبرمان، بهذا الموقف من جديد، الخيار الذي تنتهجه إسرائيل، وأنه مسقوف بحدين: منع بناء قدرة صاروخية تشكّل تهديداً لإسرائيل على الأراضي السورية، وعدم التدهور نحو مواجهة كبرى. وأهمية التعبير عن هذا الموقف، بالنسبة إلى القيادة الإسرائيلية، تنبع من ضرورة الكشف والتأكيد على أنها ما زالت متمسكة بخيارها العدواني على الساحة السورية، وأنها لم تتنازل عن ثوابتها في هذا المجال رغم الضربة القاسية التي تلقتها.
لكن المشكلة المستجدة بالنسبة إلى صنّاع القرار في تل أبيب دفعت الصحافي الإسرائيلي الذي كان يحاور ليبرمان إلى مقاطعته بالسؤال عن كيفية ترجمة ذلك عملياً. وينبع هذا التساؤل من إدراك للقيود والمخاطر التي باتت ماثلة أمام مواصلة هذا الخيار، خاصة في ظل تقدير ومخاوف تسود تل أبيب على نطاق واسع، من أن يكون ما جرى في العاشر من شباط نتيجة قرار اتخذته القيادة السورية بالتصدي ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية التي تواصل تنفيذها منذ مطلع عام 2013.
في السابق، كان الإسرائيلي يخطّط لاعتداءاته انطلاقاً من تقدير بأن ظروف الدولة السورية لا تسمح لها بالتصدي والرد تفادياً لفتح جبهة ثانية. لكن بعد الانتصارات التي تحققت في مواجهة الجماعات الارهابية والتكفيرية، وإبعاد شبح الخطر الذي تشكله هذه الجماعات، أثبتت دمشق أنها ما زالت تملك قرار التصدي والرد، بشكل مدروس وهادف. والنتيجة الفورية والمؤكدة، لهذه الصدمة، أنها ستُعقِّد المعادلة التي طرحها ليبرمان، الجمع بين سياسة الاستهداف الموضعي وفي الوقت نفسه منع حصول تدهور، بل يدرك الإسرائيلي أنه ما بعد العاشر من شباط لن يكون كما قبله، حتى لو لم يتم التصدي لكل اعتداء بذاته. بمعنى أن عدم ردّ الجيش السوري على ضربة إسرائيلية، ما، موضعية لاحقة، لن يعني، بالضرورة، أنه تراجع عن هذا الخيار، ولكن قد يندرج في إطار سياسة واستراتيجية مدروسة تحدّد الوتيرة والسقف والأهداف... ويفترض، بل المرجّح، أن يكون هذا المفهوم حاضر بقوة لدى القيادتين السياسية والأمنية في تل أبيب، وهو ما سيؤدي إلى بقاء هاجس الرد حاضراً مع كل ضربة يخططون لها.
ولا يخفى أن خصوصية هذا الموقف تنبع من كونه يصدر عن وزير الأمن بالذات، أي المسؤول المباشر من قبل الحكومة عن المؤسسة العسكرية. وبالتالي فهو يعبّر عن التوجه الرسمي. ويكشف تحديد هذه الضوابط على لسانه، عدم التدهور ومنع بناء القدرات الصاروخية، عن رؤية وتقدير تتبنّاهما المؤسسة الإسرائيلية إزاء البيئة الاستراتيجية التي تشكلت بعد الانتصار على «داعش» وأخواته في الساحة السورية.
من جهة، يؤكد رأس الهرم السياسي للمؤسسة العسكرية أن التهديد الأكبر على إسرائيل من جبهتها الشمالية يتمثل بما تقول إنه قواعد إيرانية، وبناء قدرات صاروخية استراتيجية تهدد العمق الإسرائيلي، في نسخة مماثلة لما هو في لبنان الذي استطاع أن يفرض معادلة ردع استراتيجي وعملاني مع العدو طوال نحو 12 عاماً. في المقابل، تدرك تل أبيب أن شنّ حرب واسعة لاستئصال هذا التهديد مكلف جداً لها، وينطوي على أثمان لا تتحملها. ومن هنا، تحاول أن تجمع بين تمسّكها بمواجهة هذا التهديد، وعدم الذهاب نحو الحرب. لكن ماذا ستفعل إسرائيل إذا ما اكتشفت لاحقاً أن هناك مزيداً من القيود فرضت على الاستراتيجية التي تتبعها في الساحة السورية، وأن عليها أن تختار أحد خيارين، إما الكف عن الاعتداءات أو تحمّل دفع أثمان مواجهة كبرى، أو على الأقل تحمّل دفع أثمان الردود المدروسة والحازمة التي قد تبادر اليها دمشق.
لا يعني ما تقدم أن الصورة باتت واضحة إزاء مسار التطورات المقبلة على الساحة السورية، لكن يكفي عدم وضوحها للدلالة على مدى تعقيدات المشهد. وعلى هذه الخلفية يأتي ما أوضحه ليبرمان أيضاً، حول مساعي إسرائيل على المستوى الدولي لمواجهة هذا التهديد. وهو تعبير مُلطَّف عن مساعي للاستعانة بالدول العظمى من أجل كبح هذا المسار التعاظمي لمحور المقاومة. وهو أمر يكرّره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مراراً، من خلال اتصالاته مع واشنطن وموسكو والعواصم الأوروبية.