دمشق | انتشرت اخيراً صورة لثلاثة باصات قديمة تنتصب طوليا على رأسها في أحد شوارع حلب، لتمثّل سواتر من قناص أحد الشوارع المدمرة، لكن في دمشق، تراها على الأرض تسير وتستعيد حضورها. تغطي هذه الباصات إلى جانب حوالى 365 باصاً حديثاً، خطوط النقل في محافظات البلاد، بينما يخدم 65 منها خطوط سير في دمشق وضواحيها، وتعادل في ربحها اليوم (50 ليرة) عشرة أضعاف ما كانت تربحه سابقاً (5 ليرة) كأجرة للركاب، ووقودها من مادة المازوت مؤمن ضمن مخصصات الدولة الرسمية.
معظم الباصات القديمة «خدمت» في المؤسسات الرسمية، واقتصرت مهمتها على نقل الموظفين، والجديدة (الصينية) الخضراء أو الزرقاء اللون تخدم في خطوط النقل في دمشق. هكذا لمع نجم أشهر أنواع الباصات القديمة في دمشق وريفها، باص «هوب هوب» نوع «سكانيا»، بنوعيه 32 مقعداً و18 مقعداً، لتدخل كما الميكرو باص، خطوط نقل العاصمة وريفها الباقي.
أبرز خطوط تلك الباصات هي جرمانا – كراجات، وكسوة – كراجات، وقدسيا، والهامة، وصحنايا، ومعظمها يعمل على نقل الناس من وسط العاصمة إلى الكاراجات الرئيسية في العباسيين ونهر عيشة وتحت جسر الرئيس وسط دمشق.
كانت تعمل تلك الباصات قبل الأحداث على خطوط السفر بين المحافظات والقرى المحيطة بها. أبو سهيل، سائق باص «هوب هوب» كان يقل الركاب من كاراج السومرية على أطراف المزة إلى بلدة النبك في الريف الدمشقي، أمّا الآن، فهو يعمل على خط جرمانا- كراجات: «يكفي أن نحمّل ركاباً من جرمانا إلى الكراجات دون أن تصطادنا دورية مرور!»، يروي أبو سهيل لـ«الأخبار»، ويشير إلى حجم الضغوط التي تتعرض له مركبته بمنعها من الدخول إلى مناطق كثيرة وسط المدينة لأنها «لا تمثل وجهاً حضارياً للنقل الداخلي، فالباصات الخضراء الأنيقة (أوجب) وهي للحكومة».
بينما لا يثبت عمل ناجي يوسف على خط سير واحد. لقد طبع هذا السائق أكثر من لافتة لأسماء المناطق والخطوط، واتفق مع دوريات مرور عدة ليعبر على الطرق دون تدقيق على تغيّر خطه. يقول: «أحياناً يكون خط كسوة ــ كراجات طويلاً ومليئاً بالحواجز، فأحوّل خطي على جرمانا ــ كراجات، وأحياناً أبقى ضمن منطقة صحنايا أقلّ ركابها ضمن ضواحيها فقط.
يملك ناجي ثلاثة باصات نوع «سكانيا»، الكبير منها يعمل مع أحد مؤسسات الدولة لنقل الموظفين، أمّا الإثنان الباقيان، فأحدهما يعمل على خط نقل جسر الرئيس – كراجات السومرية وأحياناً يمتد إلى جديدة عرطوز. والآخر يقوده بنفسه، وهو الأكثر حظوة ودخلاً لتنوع خطوط سيره بين المناطق المحيطة بالعاصمة.
لا يقبل أحد من هؤلاء السائقين دخلاً أقل من «عشرين ألف ليرة سورية يومياً»، بمعدل ساعات عمل يصل لاثنتي عشر ساعة يومياً. وتزدحم مراكبهم المتوسطة ذات 18 مقعداً لتستوعب نحو خمسة وثلاثين راكباً. وأجرة الركوب تبدأ من خمسين ليرة حتى المئة ليرة بحسب طول الخط، وندرة وجود «الميكروباصات» عليه حتى ساعات متقدمة من الليل. تتعامل معها الجهات الرسمية كأنها «ميكروباصات» ذات 14 راكباً، وتكتفي بمخالفتها شكلياً اذا «حمّلت» أكثر من المسموح به لعدد الركاب، لكن ذلك سريعاً ما «يُغضّ عنه البصر بوجود الإكرامية للدورية المناوبة»، بحسب أحد السائقين.
على الجهة المقابلة من المشهد، يبدو الراكب المستهلك الأنشط الذي لا يوفر وسيلة نقل حديثة كانت أم قديمة إلا يستعين بها. طلبة وعمال وأطفال ونساء... تراهم يحملون حاجياتهم ويتعلقون بـ«الهوب هوب» دون اكتراث بالزحام.
خالد عودة، شاب يعمل في سوق ساروجا، يقضي يومياً بين الساعة والساعتين في نقل قطع الثياب من ورش جرمانا إلى بعض بسطات الثياب في دمشق، ويتخلص من زحام الطريق والتفتيش بركوبه لباص جرمانا – كرجات. يقول: «أنقل كيسين كبيرين يومياً من الثياب وأتجنب إظهار فواتير وتوقيف الحواجز». يحاول عدم تضييع الوقت، ومع «سفرة الهوب هوب الطويلة أجدها أكثر أمناً».
هي سفرة رابحة بضرائب أقل لأصحاب الـ«سكانيا». زحام العاصمة لا يخيفهم، وقطع غيار مركباتهم العتيقة متوافرة. «معالجة حوادثها أبسط من سقاية الزهور»، نظراً لقسوة بنيانها وخوف معظم السيارات من مزاحمتها!