منزل في المخيّم
ورقة صغيرة بحجم كفّ اليد ـ قد لا نعوّل نحن عليها ـ ولكن، بالنسبة لها هي كل شيء. هي جواز مرورها إلى حياتها. ذات يوم، خرجت الصبية من مخيم عين الحلوة متوجهة إلى عملها، لملمت أغراضها على عجل ونسيت ورقتها الصغيرة التي دوّن عليها اسمها ومكان إقامتها، بعد الظهر عادت، أوقفوها عند الحاجز العسكري المقام عند مدخل المخيم، طلبوا الورقة التي تعرّف عنها، فلم تجدها. قالت لهم بأنها نسيتها في البيت وأشارت بيدها إلى المبنى المقابل، قائلة: «هادا دارنا». مع ذلك، منعوها من الدخول. وفي كل مرة، ستنسى تلك القصاصة سيمنعونها.

هي هديل الزعبي، الصبية التي كبرت 21 سنة في مخيم عين الحلوة ولا تزال «الغريبة». في كل يوم تخرج فيه من المخيم إلى عملها في صيدا سيفتشونها، وكأنها تدخل بيتها للمرّة الأولى. هديل وصلت إلى السنة الأخيرة في تعليمها الثانوي ولم تكمل، تقول بأنها كانت تنوي «هذا العام تقديم طلب حر ولكن لم أفعل. مع ذلك، أريد أن أكمل تعليمي وأتخصص في العلوم السياسية أو الإعلام، كما أريد شيئاً آخر: أن أعيش بمفردي في منزل مستقل. هذا حلم طبعاً، لأن هذا مستحيل في المخيم».
منذ ثلاثة أشهر، بدأت هديل العمل في جمعية «CIVIS MUNDY»، المموّلة من الاتحاد الأوروبي. ثلاثة أشهر «مستقرة»، على عكس الأعمال السابقة المتقطعة، إذ «عملت لفترات متقطعة كنادلة في مطاعم ومقاهي».

«وعيت لقيت حالي بحركة فتح»

لم أولد مستقلة... سياسياً. لا مكان للاستغراب هنا، فمعظم أبناء المخيم يولدون «محزّبين»، جلّهم مثلي «وعيت ولقيت حالي بحركة فتح»، أحببتها وكانت تجري في دمي لأني كنت أحب أبو عمار. ولكن، عندما أصبحت في سن المراهقة، لاحظت «إنه ما بيمشي الحال أكون عرفات». اليوم، أميل إلى الفكر اليساري، وقد كان لأبي دور في ذلك، فإن كان ينتمي إلى تنظيم فتح، إلا أنه ساعدني بطريقة ما في تنمية الأفكار اليسارية لدي، كان يحدّثني عن الايديولوجيات المختلفة ويزوّدني ببعض الكتب التي كان يقتنيها في مكتبته عن المادية التاريخية والديالكتيك وغيره. ثمة من ساهم أيضاً في تكويني: أصدقائي في اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، حيث بت أشعر أن مكاني الطبيعي ليس فتح.

الجزء الناقص من حياة والدي

عندما ولدت، أورثني والدي نقصه، أورثني «فقدانه» للأوراق الثبوتية. عندما هُجّرت عائلتي من الضفة الغربية عام 1967، لم يعترف بها كعائلة لاجئة، وبقيت كغيرها من عائلات الـ»67» بلا شيء. منذ فترة ليست ببعيدة، منحت منظمة التحرير الفلسطينية فاقدي الأوراق الثبوتية بطاقة تعريف تحمل الاسم والشهرة ومكان الإقامة وتذكرنا بأننا فاقدون للأوراق الرسمية. ما عدا ذلك الاعتراف، لا أحد هنا يعترف بنا، لا الدولة اللبنانية ولا حتى الأونروا، تحرمنا هذه المشكلة من السفر ومن الزواج أيضاً. ولكن، مع ذلك، يمكن حل هذه المشكلة: بقرار سياسي. فالأمر عالق بين الدولة اللبنانية والمسؤولين الفلسطينيين والبلاد التي أتينا منها. عام 2008 حصلنا على ورقة تعريف من الأمن العام، ولكن سرعان ما أعيد سحبها، حيث تحوّل الموضوع إلى تجارة.
يذكر أن عدد الأشخاص الفاقدين للأوراق الثبوتبة يقدّر بحوالى ستة آلاف نسمة في لبنان.

خطوة خارج المخيم

لست ملتزمة دينياً وأعرف أنه لا يحق لأحدٍ أن يفرض أي شيء عليّ. ولكني، لبست الحجاب، إذ أدركت أنه من واجبي مراعاة جو المخيم، حتى لو لم أكن أؤمن بالمعتقدات هناك. أحب المخيم، أحب أن أبقى فيه، فكل خطوة لي خارج المخيم، ستشعرني بقساوة كلمة لاجئ. لكن، هذا الحب قد يزول برصاصة طائشة تمزّق رأسي، سيكون سببها في الغالب أشخاص يصفون حساباتهم الشخصية. فهنا، هؤلاء الذين يحكمون «كأنوا المخيم للّي خلفهم». مع ذلك، اعتدنا على قول «اللي إلو عمر ما بتقتلو شدّة. أنا بحب المخيم وما بتخايل حالي عايشة بـ»بناي» (مبنى)».

غرفة فوق الدار

عدت من قطر لأبني غرفة فوق «دار» أهلي. وعندما سأنتهي منه، سأخطب ابنة عمي... على أمل أن أجد عملاً يقيني العوز فقط. أعرف بأنه لن يكون عملاً راقياً لأنني لاجئ أولاً ولأنني لم أكمل تعليمي ثانياً. وصلت إلى الثامن ابتدائي وتوقفت عندما وجدت أن العلم لن يوصلني إلى العمل، فقد رأيت أمامي نماذج كثيرة لشباب حصلوا على شهادات جامعية وعملوا في نهاية الأمر في «الطوبار» (ورش البناء). حينها، سألت نفسي: لماذا سيتكلف أبي ليعلمني، إن كانت النتيجة واحدة؟ اتخذت القرار وبدأت البحث عن عمل، أي عمل، فكل ما كنت أريده هو مساعدة أهلي في معيشتهم. بحثت من دون جدوى، إلى أن حالفني الحظ وسافرت إلى قطر، وعملت لتأمين مبلغ من المال كي أستطيع التقدّم لابنة عمي. لو أنني لم أفعل ذلك، فبالتأكيد كنت سأنتمي إلى «فصيل» في المخيم، فالفصائل الفلسطينية تستغل هذه المشكلة وتجعل الشباب ينتمون إليها وينصاعون إلى أجندتها السياسية لقاء 200 أو 300 دولار أميركي شهرياً، قيمة بالكاد تكفي لتأمين لقمة العيش، بلا استشفاء ولا طبابة ولا فرح.

دفتر سندريلا

الحظ وحده ساندني. عندما انتهيت من مرحلتي الثانوية، وقفت عاجزة، فوالدي كان يملك دكاناً صغيرة، بالكاد يجني منها يومياً 15 ألف ليرة لبنانية تكفينا لنأكل. تلك الظروف حرمتني من أن أعيش طفولتي كغيري/ لم أمتلك يوماً لعبة/ أتذكر أنني عندما كبرت، اشتريت دفتراً للتلوين مرسوم عليه شخصية سندريلا وبعض أميرات قصص الأطفال الخيالية/ فرحت به ورحت ألوّن، وكأني طفلة صغيرة/ تذكرت طفولتي متأخرة. ولأنني لا أريد أن أحرم من مستقبلي، لجأت إلى عمي الذي يعمل في الخارج لتغطية نفقات جامعتي. اليوم، تخرجت من كلية التربية بمساعدة عمي. وهذه «نعمة» ليست متوافرة لطلاب كثيرين. مع ذلك، لم أستطع أن أنال وظيفة بقدر ما كنت أحلم. تقدمت بطلب للتدريس في إحدى مدارس الأونروا، رفضت طبعاً «لأنو ما عندي ضهر». عندها، صرت أبحث عن أي عمل، عملت كمساعدة إدارية في شركة للاستشارات. مشكلتنا نحن الشباب أننا تعودنا على الاستسلام وخصوصاً «معشر النساء». اعتدنا على القول: «أنا ما بعرف، أنا مش قادرة، أنا مش متعلمة». صارت أسهل من «شربة المي».