كبرت على باب مخيم برج البراجنة، وتحديداً في الزقاق المؤدي الى بيت جدتي. ذاك الزقاق الضيّق كان متنفسنا الوحيد، لنمارس شقاوتنا ولنعيش طفولتنا. كانت لعبة كرة القدم، لعبتنا المفضلة، علماً بأنني كنت فاشلاً فيها، فكنت أُختارلأكون حارساً للمرمى بسبب ضخامة حجمي وصغر المرمى.
كبرنا وأصبح الزقاق ضيّقا علينا، ولم يعد يتسع الا لـ «3 وحارس». مع الوقت، استطعنا اقتحام ملعب مدرسة «البيرة» التابعة لـ«الأونروا» الملاصق لمنزل جدتي. اكتشفنا أن الملعب كبير علينا، لذا طلبنا من اولاد «الحي الثاني» مشاركتنا إياه. وبالطبع اولاد الحي الثاني فلسطينيون 100%، ومن داخل المخيم وليسوا من أطرافه. كان الملعب بمثابة الرئتين لنا ولهم، فهناك يمكننا ان «نشوط» الكرة براحتنا. لا خوف على تكسير شبابيك، او اصابة أحد المارة، كما أنه يمكننا الصراخ عالياً من دون سماعنا لازمة «يا ولاد كُلّ واحِد على بيتو».
في المخيم لا يملك الأطفال المساحة اللازمة للعب. البيوت هنا يعانق بعضها بعضا. وسماء المخيم تبدو قريبة ويمكن لمسها باليد. تتدلى فوق رؤسهم الاسلاك الكهربائية التي تحتضن خراطيم المياه. اذا اصابت الكرة هذا المزيج الخطير، فذلك يعني إما قطع الكهرباء او الماء عن أحد بيوت المخيم.
مع مرور الوقت أصبحت الأزقة أضيق، وارتفع عدد السكان، كما اصبحت الابنية أعلى. كيف يمكن لأزقة ضيقة لا تتسع الا لشخصين يمران قرب بعضهما بعضا ان تكون ملعباً؟
كرة القدم في الجبانات
تختلف عن القواعد المعروفة، فالشرط الاساسي هو تناوب اعضاء الفريق على البحث عن الكرة بين القبور
لفظت الأزقة أطفال المخيم، الذين وجدوا في الملاعب الرملية على طريق المطار متنفساً لهم. كانت المباريات الحامية هناك تجري بين «فلسطينيّي ولبنانيّي»، أو «فلسطينيّي وبعلبكيي»، وخصوصاً انه على طرف المخيم يسكن فقراء بعلبك والجنوب. بالتأكيد غالباً بعد المباريات كان الفريق الخاسر يتعرض للضرب، وحتى الآن لم أفهم سبب ذلك. ربما هو عرض قوة للمهارات الرياضية والجسدية.
مرّت السنون، وظهر أصحاب تلك الملاعب. طالبوا بأرضهم. سيّجوها، معلنين نيتهم تحويلها إلى أبنية.
اُقتُلعت رئة أخرى للمخيم. عاد الأطفال والشباب الى الأزقة الداخلية مجدداً. فتشوا عن البديل، فوجدوه في الجبانة. وجد ابناء المخيم بين أضرحة الموتى ملجأهم، فكانوا ينصبون عارضات المرمى بحجارة تدعيم جدران القبور.
في تلك المساحة الضيقة، كبر أغلب ابناء المخيم. وبالمناسبة قواعد لعب كرة القدم في الجبانات تختلف عن القواعد المعروفة، فالشرط الاساسي هو تناوب اعضاء الفريق على البحث عن الكرة بين القبور بعد كل هدف. مع الوقت، حتى هذه الفسحة لم تعد متاحة لأطفال المخيم، وذلك بسبب الحاجة لكل شبر من ارض الجبانة، وخصوصاً انه حتى الموتى لم يعد يجدوا مكاناً ليدفنوا فيه. لذا لجأ بعض سكان المخيم الى تحويل سطوح بيوتهم الى ملاعب صغيرة للأطفال. المشكلة في مثل هذه الملاعب هو عند وقوع الكرة عن السطح، لذلك جرى تسييجها لتخفيف عناء الصعود والنزول المتكرر.
حالياً، ساهمت ملاعب «الميني فوتبول» المنتشرة على أطراف المخيم في تخفيف هذه الأزمة بالنسبة إلى الشبان الفلسطينيين. أما الأطفال، فلهم السطوح أو الملعب الملاصق لمنزل جدتي. هناك أمارس عقدة الطفولة، وأصرخ عليهم «يا ولاد كُلّ واحِد على بيتو».