بالكاد، تنام الشوارع. حتى في المرحلة «المفصليّة»، التي يسمّونها الحرب الأهليّة اللبنانيّة، كانت بيروت تطفئ أنوارها بالقوة، كما يذكر الذين احتربوا، والذين شاهدوا بيروت تحترق في الحرب. اعتادت المدينة الصخب، ورغم كل شيء لم تغيّر عاداتها. لكن، للمدن خصوصيتها، و«الضجيج» يتفاوت بين ساعةٍ وساعة، وبين محلة ومحلة.
الخامسة والنصف صباحاً: عين المريسة

المسنون يملأون المشهد. على الرصيف الممتد من الرملة البيضاء إلى عين المريسة، يسبق هؤلاء نور الصباح إلى البحر. يأتونه باحثين عن «العمر المديد». ربما، وجدوا قلوبهم تبطئ في الخفقان، فلجأوا لرصيف البحر ليعيدها إليهم. لكنهم، ليسوا وحدهم هنا، فثمة عشاق أيضاً يقصدون البحر قبل الفجر، ليشهدوا الشروق متعانقين. وعلى الرصيف نفسه، سنجد أيضاً من يحتسي قهوته الصباحية قبالة البحر. «يفلفش» صفحات جريدة اشتراها للتو من البائع المتسكع هناك. وفي آخر الصورة، ينتظر الصيادون غلتهم الثمينة من البحر. لا يحتمل المشهد أكثر من هؤلاء في تلك الساعة المبكرة على حافة البحر. فعند الساعة الخامسة والنصف صباحاً، لن تجد على أرصفة عين المريسة إلا الباحثين عن جرعة من الهواء الخالي من الضجيج والدخان، والباحثين أيضاً عن هدوء لا توفره مدينتهم في ما يتبقى من ساعات النهار. ثمة نظريّة ــ مزحة في بيروت تقول إنه لولا البحر، لانتحر نصف السكان.

الثانية بعد الظهر: الكولا

«ع صيدا». «ع صور». «طروبليس». «شتورا ـ زحلة ـ بعلبيييك».
الكولا دائماً مختنقة بناسها. لا يمكن للعابر هناك ألا يعيش كل هذا الضجيج وألا تعلق في رأسه كل هذه العبارات. الكولا هي النبض، أو لنقل منطقة «المرور الإلزامي» للكثيرين، وخصوصاً في ساعة الذروة ما بين الثانية من بعض الظهر والرابعة عصراً ـ فترة انتهاء دوامات العمل والمدرسة أيضاً. يزدحم الشارع بباصات المدارس و«الفانات» التي تقلّ الركاب من بيروت نحو ضواحيها أو إلى الضيّع. تحت جسر الكولا، الذي صار معلماً، لا تقل «العلقة» في زحمة السير عن ربع ساعة، قبل أن تشق طريقك بعيداً منها. وهذه لعنة تلاحق المارين من هناك، إضافة إلى لعنة أبواق السيارات. لكن، الصبر «جميل». في المنطقة التي تعدّ نقطة انطلاق لا بد منها إلى كل لبنان «ع شوي»، قد تركب الحافلة التي تأخذك جنوباً إلى صيدا وصور والزهراني والنبطية... وبقاعاً وشمالاً، إضافة إلى الرحلات «الداخلية» في قلب بيروت وضواحيها. وهذه ميزة تحسب للكولا التي يجتمع على «أرضها» لبنانيون من كل المناطق، يتقاسمون تعب نهاراتهم. يتبادلون أطراف حديث بانتظار الوصول إلى وجهتهم. هكذا، يمضي الوقت من دون أن يشعروا. مضى الوقت وأخذ معه محطات أخرى كثيرة مشابهة كانت قبل الحرب.

الوجه الآخر للكولا

متراسان وخط تماس ينشآن فجأة في المنطقة. يتخذ لقاء العابرين والمقيمين ــ أحياناً ــ شكلاً آخر. يلتقون في ساعات «الأزمة» على الخلاف السياسي والطائفي، ويجتمعون على الحل الأسوأ: السلاح. الكولا هي منطقة الاشتعال الأولى، ومرمى الرصاص العشوائي. وللكولا ذاكرة من شهر أيار، كرست فيها حسها القتالي. يندثر ازدحام السير تحت وطأة الرصاص، فتتغير معالم المنطقة، وينتهي اللقاء الجبري الذي اعتاده المارة يومياً، ليحل بدله ازدحام المعركة بما فيها من قتل وجريمة.

الثامنة مساء: الحمرا والجميزة

بين الحمرا والجميزة قاسم مشترك: السهر. فهما الشارعان الأكثر جذباً لمحبي السهر في الهواء الطلق في غالب الأحيان. أما ما عدا ذلك، فلكل شارع «حميميته».
من الحمرا الى الجميزة، 10 دقائق فاصلة. رغم ذلك، تختلف المعادلة بين المكانين. طبائع استهلاكيّة جديدة، حيث يصبح الشباب أكثر حضوراً


«يا شارع الحمرا، يا شارع الألوان يا مصيدة القلوب وخسارة الجوعان، يا شارع الثقافة، تجار وبياعين». هكذا، غنى خالد الهبر شارع الحمرا، والشارع، يحتفظ بشيء من هذا. مقاهٍ، حانات، أو حتى فسحات تتيح لأقدام التائهين التنقل بين الأزقة التي تصل بين أطراف المنطقة. تغيّرت الحمرا لكن الشارع لا يقتصر على الحانات والمقاهي، وقد أصبح بمجمع تجاري ضخم على مقاس طبائع استهلاكيّة جديدة. رغم ذلك، الكثير من العابرين في شارع الحمرا الأصوات المتداخلة، الأحاديث المتناثرة والخطوات السريعة، الكعاب العالية، قرقعة الكؤوس، أبواق السيارات، عازف الغيتار على درج الدومتيكس، الضحكات العالية، كلها تصنع شارع الحمرا.
من الحمرا الى الجميزة، 10 دقائق فاصلة. رغم ذلك، تختلف المعادلة بين المكانين. طبائع استهلاكيّة جديدة، ربما؟ هنا يصبح الشباب أكثر حضوراً. وهنا أيضاً، الصخب يشتد. ففي ساعات الليل المتأخرة، تمتلئ أرصفة الجميزة بالمقاعد والطاولات، فتتحول امتداداً للمقاهي على جانبيها. يجتمع محبو أجواء السهر والمرح والصخب الى حد ما، دون غيرهم ممن لن يجدوا لأنفسهم مكان في ليل هذا الشارع. يبقى اللقاء الأجمل في شارع الجميزة، هو لقاء الشباب مع جدرانٍ بقيت، من ماضٍ آخذ في التبدل. «الأجانب» يحبّون الجميّزة، يظنون أن تلك هي بيروت، وأن تلك هي عمارتها الأصليّة.

بيروت الكولونياليّة

منتصف الليل في الداون التاون. الطرقات خالية إلا من بعض السيارات، والهدوء يعم المكان. ضجيج الأربع وعشرين ساعةٍ الماضية يتلاشى تدريجياً، فينحسر داخل الأماكن المخصصة للسهر من نواد ليلية محاذية شرقاً وغرباً، ومقاه وغيرها. تغفو المدينة ساعات وتصحو باكراً عند الرصيف البحري. وهكذا دواليك.

تتمة المشهد: بائعو العلكة والورود

هم الفقراء الذين لا يغيبون عن أي مشهد رغم الفوارق الطبقية المفروضة. هم الذين يستثمرون الشارع، وينتظرون ازدحام اللقاءات في جميع الأماكن، منذ الصباح الباكر الى أن تغفو الشوارع. هم الوحيدون الذين يدعون للمارة في كل مرة إلى لقاء جديد.

الأحد الطبقي

الفقراء الى شاطئ الرملة البيضاء، أو ما تبقى من حديقتها. أما الميسورون فيختارون البحر لقضاء يوم العطلة: «الزيتونة» بمقاهيها وأسعارها المرتفعة. هكذا، ينقسم الشاطئ على نفسه بين فقير وغني. هذا الانقسام الذي لم يأت من العدم، بل من تعديات هائلة على الواجهة البحرية، يقف عائقاً أمام لقاء أبناء المدينة بعضهم بالبعض الآخر، لتزداد الحواجز الطبقية في ما بينهم يوماً بعد يوم.

حرش النبلاء

في بيروت حدائق عامة مغلقة، أهمها حرش بيروت أو حرش العيد. فمدينة بيروت قد سلبت حقها بأن يجد ابناؤها مكاناً يلتقون فيه. هذا الحرش المقفل تعسفياً، هو رئة بيروت الخضراء الوحيدة المتبقية. مساحة واسعة من الهواء النقي والهدوء على امتداد أربع وعشرين ساعة، يحرم منها أبناء المدينة، فيما لو أتيح للعموم، لكان لأبناء خطوط التماس السابقة مكان يلتقون فيه بسلام يشجعهم على غسل القلوب. فالحرش هذا يتوسط عدداً من المناطق لا تزال تشتعل مع كل خطاب سياسي من النوع التحريضي. الحرش لمن يستطيع إليه سبيلاً وحسب.

ساحة النجمة

وسط المدينة والساحة البيروتية الأصيلة. هكذا كانت قبل الحرب اللبنانية. الى «البلد» كان يتوجه اللبنانيون على اختلافهم ليلتقوا في مكان واحد. «كنا نجلس في ساحة النجمة، حيث تجد الفقير والغني، المثقف والجاهل، كان لهذه المنطقة روحها التي فقدتها نهائياً بعد أن تحولت الى أملاك سوليديرية... باتت حكراً على طبقة اجتماعية واحدة». هكذا يصف المكان الرجل الذي أمضى شبابه في الساحة البيروتية وحرم منها بعد ذلك. اذن لم تعد النجمة مكاناً للقاء الا في بعض المناسبات، أبرزها اليوم الأخير من كل سنة، حيث يجتمع المئات بالقرب من الساعة بانتظار أن تقرع الثانية عشرة لتعلن دخول عام جديد، كما لو أنها نسخة بائسة من ساعات العالم.

درج النخبة

اسم هذا الدرج يدل عليه، فهو الذي يستقطب أحداثاً فنية عديدة، أهمها مهرجان للأفلام القصيرة. يجتمع محبو الفن على هذا الدرج ليستعرضوا ما أنجزوه ويتبادلوا المعارف والخبرات في مجالاتهم. هذه اللقاءات عادةً ما تكون منظمة، خلافاً لغيرها من اللقاءات شبه العفوية. اذن، يجتمع في العديد من المناسبات اللبنانيون على درج الجميزة ليعبروا عن تعلقهم بالفنون على اختلافها. ولكنه صار، للأسف، نخبوياً.