تتقلص بيروت يوماً بعد يوم. لم تعد المدينة تشبه أهلها، فالعمارة التي صارت أشبه بحبال تخنق السماء، قضت على المساحات العامة. أو لنقل قلّصتها، حيث لم يبق من الفراغ الحميم إلا القليل... وقليل من هذا القليل متاح مجاناً للناس. ولعلّ الأحياء الضيقة هي إحدى هذه المساحات المجانية التي يلجأ إليها الأولاد بحثاً عن أمتار قليلة «يبنون» فيها ملعباً لكرة القدم.
أما ما عدا ذلك، فالأمر يشبه المستحيل. فأن تبحث أم عن مكان فسيح ليلهو طفلها بعيداً من الشارع، فذلك الترف بحدّ ذاته. بيروت صارت ضيقة بناسها، الذين لم يعد لديهم الحافز للخروج من البيوت. لذلك، لجأوا إلى شرفاتهم في ظل غياب المساحات العامة. هندسوها لتصبح شبية بملاعب صغيرة لأطفالهم. ويدلّل على ذلك المهندس المعماري صادق جمعة، فيشير إلى أن «عدداً كبيراً من أصحاب البيوت في بيروت عمدوا إلى ضمّ الشرفات إلى البيوت، يؤطرونها بواجهات زجاجيّة، بشكل يسمح لهم باستخدامها كغرفة إضافية ـ إن كانت الشقة صغيرة الحجم ـ أو كمساحة صغيرة يلهو فيها الأطفال». ولكن، إن كانت أسباب «الضم» منطقية بالنسبة لمالكي هذه البيوت، إلا أن لذلك سيئات، منها «خفض نسبة الهواء والضوء الآتيين من الخارج وعزل قاطنيها عن المحيط الخارجي»، يقول جمعة. وهي طرق لا تفي بالغرض، ولا يمكن أن تكون بديلاً من المساحات العامة التي استحالت غالبيتها «مواقف» لركن السيارات. وفي هذا الإطار، تعبّر بعض الأمهات عن معاناتهنّ حين يقررن الخروج مع أطفالهنّ إلى أماكن لا تكلفهن مبالغ باهظة. تقول هالة إن أغلب الأماكن التي تقصدها مع أطفالها لا تقلّ تكلفة الدخول إليها عن عشرة آلاف ليرة لكلّ طفل «هذا إن كان المكان المقصود هو الـPark الذي يحوي غالباً على بعض الألعاب التقليدية، وأحياناً لا تكون هذه الألعاب صالحة، الأمر الذي يعرض الطفل للأذية». من جهتها، تشير مريم إلى أنها تقصد حدائق الحيوانات فلا «تقل الكلفة عن 80 ألفاً». تفنّد مريم هذه الثمانين، فتشير إلى أن «كلفة دخول الشخص الواحد 8 آلاف ليرة، وقد نحتاج إلى شراء الطعام لأنهم لا يسمحون لنا بأن نجلب معنا طعامنا الخاص، فيكلفنا ذلك حوالى 40 ألف ليرة». وتلفت إلى أن مدن الملاهي قليلة وأسعار البطاقات باهظة. في «الفانتزي وورلد» مثلاً، تبلغ تكلفة «دفتر الاشتراك» 14 ألفاً، «ولا يكفي إلا لولدين إذا كانت أعمارهم بين السادسة والعاشرة، لأن الألعاب الأخرى تزيد تكلفتها»، تتابع مريم. أما «الكيدز موندو» الذي يجرّب فيه الأطفال المهن، فحكاية أخرى. فهذا المبنى الذي افتتح أخيراً في منطقة البيال، وضعت للألعاب هناك «أسعاراً باهظة مقسّمة بحسب الفئات، فتكلفة دخول الطفل مثلاً 40 ألفاً وللمرافق له 20 ألفاً»، بحسب مريم. لهذا، صارت مريم تلجأ إلى «الكرنفالات». وفي هذا الإطار، تحاول اليوم مجموعات من «أصدقاء المدينة» إقامة كرنفالات بين الحين والآخر في مناطق مختلفة، كنوع من المتنزهات المتنقلة. وإن كانت غالباً تقام ليومٍ واحد أو بضعة أيام، إلا أنها تشدّ الناس إليها وخصوصاً الأطفال، إذ تخصص لهم حيّزاً «ملوّناً» مليئاً بالبالونات والألعاب والموسيقى والدمى والرسم على الوجوه والمشاركة في مسابقات صغيرة تخولهم ربح الهدايا.
هكذا، لم تستطع مدن الملاهي، مع ندرتها، أن تُشبع رغبة الأولاد في اكتشاف العالم الحقيقي. فهذه المدن تبقى مكاناً مغلقاً يحدّ هؤلاء من الحرية التي تتيح لهم إطلاق العنان لأجسادهم في الأماكن الواسعة، وبناء علاقة حميمة بينهم وبين الطبيعة التي كانت تتجلى بألعاب بسيطة مثل «الغميضة» أو السبق وغير ذلك. لكن ذلك لم يعد متاحاً من دون حسابات مادية له. فاللعب صار لها «ثمنه» أيضاً.

http://www.youtube.com/watch?v=NXxcMw5PTDg