تطول جلسة روّاد كافيتيريا معرض الكتاب العربي والدولي وهم يحاولون أن يحزروا أسماء أصدقائهم «الافتراضيين»، الذين يمرّون غالباً بشكل عابر، فيما يتشجع قلّة على التعريف بأنفسهم. وبين صديق وآخر، يمرّون على الشعراء الشباب الذين يروحون ويجيئون. يتداولون أسماء هؤلاء الوافدين الجدد إلى عالم الأدب، مستعينين بذكر احتفالات التواقيع التي أعدّوها. يدلّون على الأوّل ويقولون إنه وقّع ديوانه أمس، والثاني وقّع قبل يومين، والثالثة سبقتهما بأيام. الأخيرة تحوّل حفل توقيعها إلى مهرجان، بعدما استطاعت أن تحشد عدداً كبيراً من الحضور، ومن التغطية التلفزيونية.
في مكان آخر من المعرض، بعيداً عن الكافيتيريا، شاعرة توقّع أيضاً، لكن بطريقة استثنائية. يتحلّق أصدقاؤها المعدودون حولها، فيما تمسك بمذياع صغير في يدها وتقرأ عليهم بعض قصائدها. لم تحظ هذه الشاعرة بأمسية في قاعة المحاضرات السفلية. هناك، على بعد خطوات فقط، كان الشاعر العتيق يراوغ الحضور عبر لغة تحوّلت على مرّ العقود إلى عجينة سهلة في يديه، يطوّعها كيفما أراد. لكن، لا أحد من الشعراء الجدد الذين احتفوا بتواقيعهم كان موجوداً ليستمع إلى شعر واحد من الشعراء المكرّسين في لبنان. وكان شاعرنا يعرف ذلك. يعرف أنه بات يفتقر إلى الجيل الجديد، لذا وجّه كلامه إلى أولئك الستينيين، المتزلّجين على جليد العمر، لا يملكون إلا التصفيق لما يسمّونه فتوحات في عالم النساء اللواتي تملأ أسماؤهن القصيدة. فيقف أحدهم رافعاً يديه إلى أعلى، مطالباً بإعادة العبارة التي وصف فيها الشاعر أعضاء حميمة للمرأة، وسط تشجيع من أصدقائه. يكرّر الشاعر عبارته ضاحكاً منتشياً، وينادي من على منبره صديقه الآخر، ليسمع هو أيضاً. لم يلاحظ هؤلاء ابتسامات المنسحبين من القاعة، الذين يعرفون كيف يحوّل غواة اللغة هزائمهم إلى انتصارات.
لا جديد في هذا المشهد. غالباً ما تهزم النرجسية الشاعر، فتجعله يسيء اختيار الأجمل من قصائده، أو ربما كانت محاولة للتعويض عن ماض قريب، كان الشاعر فيه يختفي خلف صف طويل من الذين ينتظرون توقيعه على ديوان ما. صفّ طويل، لكنه لم يصل يوماً إلى الحشد الذي استقطبته الروائية الظاهرة، مستعينة هذا العام بنجم جماهيري يواكب نصوصها غناءً. هكذا، فاق الحضور كلّ التوقعات، مسبّباً الكثير من الفوضى في المكان. حتى إن أحد العاملين في دار النشر التي احتضنتها لم يتردّد في شتم المنتظرين. من حاول أن يبرّر للعامل خطأه،
لا أحد من
الشعراء الجدد شوهد في أمسية الشاعر المكرّس


ردّ الأمر إلى «المستوى المختلف» الذي لحق بالكاتبة ليحظى بتوقيعها. من هؤلاء الناس، شاب يناهز العشرين انتظر أربع ساعات كاملة ليحظى بعبارة خطّتها يد الكاتبة على الصفحة الأولى، يحملها هدية إلى حبيبته التي يفترض أن تتعلّم من الكتاب طريقة التعامل مع حامله إليها!
بين الشاعر العتيق والروائية ــ الظاهرة، وبين الشعراء الجدد الذين يُظلم بعضهم ربما وسط غزارة الإنتاجات الخالية من المضمون، تقف العناوين المغرية صامدة. قد يكون على رأسها إنتاجات الشيخ الراحل عبدالله العلايلي الذي احتفى المعرض بمئويته، وأحسنت «دار الجديد» التعبير عن أهميتها من خلال الصورة التي رفعتها في جناحها. فتحت عنوان «اختر نسبك»، وُضعت صورتين، الأولى للشيخ العلايلي والثانية لأبي بكر البغدادي، وطلبت من الروّاد الاختيار، مقدّمة إليهم نسخاً جديدة من أعمال الشيخ المجدّد. لكن لا الندوة التي خصّصت للحديث عن العلايلي، ولا طريقة الترويج التي اختارتها الدار، استطاعت أن تستقطب من يجب استقطابهم في هذه المرحلة التي يحتاج القارئ فيها، أكثر ما يحتاج، إلى كتب وندوات من هذا النوع، إذ لم تمتلئ نصف المقاعد في القاعة التي شهدت الندوة، كذلك لم يتوقف الكثير من الروّاد عند كتب العلايلي.
ربما تكون هذه ملاحظة متسرّعة، ينتظر تأكيدها أو نفيها معرفة أكثر الكتب مبيعاً. لكن كيف سنعرف ذلك، إذا كان العاملون عند الباب لا يحرصون على الحصول على كلّ الأوراق المفترض تسليمها، فلا يطلبونها إلا ممن يتقدّم طوعاً لتسليمها؟ في الماضي القريب أيضاً، كانت إدارة المعرض تحرص على أن يكون العاملون فيه من طلاب الجامعات. تنشر إعلاناتها في الكليات وتستقبل الطلاب الذين يستفيدون على أكثر من مستوى. لكن يبدو أن هذا التقليد لم يعد متّبعاً. ربما يكون الأمر الوحيد الذي تخلّت عنه الإدارة، لكنها في المقابل حافظت في كلّ شيء على أسلوبها القديم في العمل.
ففي وقت لا تتوقف فيه الهواتف عن الرنين معلنة وصول رسالة تدلّ على تنزيلات في أحد محال الأحذية، أو دعوة إلى التبرّع بدولار لمرضى سرطان الدم، أو إعلان عن عروض استثنائية في أحد المجمعات التجارية... يؤكد كلّ من التقيناهم من روّاد المعرض أنهم لم يقصدوه إلا لأنهم ينتظرونه عاماً بعد عام. لا أساليب جذب جديدة، ولا تسهيلات في تأمين الوصول. ولا حتى نشاطات استثنائية، تهدف إلى استقطاب اللبنانيين من مختلف المناطق، إذ شكا الكثيرون من بعد المكان عن الحياة اليومية للمواطنين، ما يجعل الكلفة المبدئية لأي زيارة إلى المعرض تبدأ بثمانية آلاف ليرة بدل مواصلات من لا يملك سيارة، أو خمسة آلاف أجرة موقف لمن يملكها.
ما لم تقم به إدارة المعرض على الصعيد العام، حاولت بعض دور النشر أن تفعله داخل المعرض. هكذا عرضت «دار النهار» مجموعة من الكتب على عربة، تشبة عربة الخضر، ورفعت فوقها لافتة صغيرة تفيد بأن سعر الكيلو انخفض من 60 إلى 40 ألف ليرة، ما وجده الكثير استفزازياً. فلم تبق اللافتة إلا أياماً معدودة. أما «دار الجديد» فوضعت عدداً من الكتب القديمة لديها، أو تلك التي تعاني من مشاكل، في سلة صغيرة وعرضتها للبيع تحت لافتة «بالات». منهم من وجد الفكرة جميلة، ومنهم من رأى فيها انتقاصاً من قيمة الثقافة التي «لا تبلى». وفي وقت تراجعت فيه بعض الدور في طريقة التسويق والعرض، واظبت دور عريقة أخرى على تقاليدها المتبعة في استقطاب كتّابها المكرّسين والاحتفاء بهم، وحافظت على حضور دائم في المعرض يمنح القارئ شعوراً بالاهتمام. قد يكون أيضاً شعوراً بضرورة وجود وظيفة أخرى للمعرض، تتجاوز بيع الكتب. صحيح أن الكلفة التي يدفعها أصحاب دور النشر بدل إيجار لأجنحتهم مرتفعة، ويفترض أن تجعلهم مشغولي البال لكي يستطيعوا تأمينها، إلا أن القارئ المهتمّ يعرف أن المطلوب من الناشرين الجديين الاضطلاع بأدوار أبعد بوصفهم ناشري معرفة.
لكن كيف يتم ذلك؟
السؤال ليس سهلاً، وقد يكون الأمر الوحيد الذي يشجّع على البحث عن إجابة له، محافظة بعض المدارس على تقليد اصطحاب تلاميذها إليه، إذ يخلو المعرض صباحاً إلا من طوابير التلاميذ يتنقلون من جناح إلى آخر، ولو لم يحسنوا الاختيار، إما لأنهم لا يعرفون عمّا يبحثون، وإما لأن الكتب التي يفترض أنها تخصّهم موجودة في أماكن بعيدة عن متناول أيديهم.
في الكافيتيريا، التي تغصّ مساءً بالحضور، يناقش الروّاد القراءات الاولى. يتذكرون زياراتهم المدرسية من جهة، ويخجلون من ذكر العناوين الاولى التي قرأوها «عندما أمرّ أمامها، أرتجف، إذ تجبرني على إجراء مراجعة لنفسي» تقول قارئة نهمة، فتعزّيها صديقتها «بالعكس، افرحي. هناك كتب تقرأ في مرحلة معينة، وهي إذا فاتتك فلا يجب أن تعودي إليها».
لكن، ليست كلّ النصائح مسموعة، وتبقى العودة متاحة ما دام معرض الكتاب يضرب لنا موعداً سنوياً.




الأمير حمزة

مربك هو الوقوف أمام كتاب ولد في غياب صاحبه. ومربك هو طلب التوقيع من والد حزين، لن تعوّض له شهادات المحبّين في ابنه ذلك الرحيل المبكر. حمزة الحاج حسن الذي اعتاد أن يجول سنوياً في أجنحة المعرض، حلّ هذا العام ضيفاً في قاعة المحاضرات وعلى رفوف جناج دار الفارابي بعدما نشرت له عائلته النصوص التي كان قد كتبها منذ كان في الرابعة عشرة من عمره.