بين مدينة بعلبك وقريّة اليمّونة مسافة 20 كلم تقريباً. طريق شبه قاحلة، في النهار ساكنة، إلا من أصوات سيّارات قليلة. أما ليلاً، فهي موحشة وباردة. عند منتصف هذه الطريق ثمّة مأساة إنسانية. أطفال يلهون، يركضون في مخيّمهم، يلعبون تحت عين الشمس ويفرحون جدّاً كلّما جاءهم زائر يحمل كاميرا. لا يسألون عن هويّة المتطفّل على عالمهم، المستجد قهراً، فقط يطلبون منه أخذ الصور لهم. بين التراب الذي تقوم عليه خيمهم، والمكان الذي جاؤوا منه، مسافة 200 كلم تقريباً. هم سوريون من حلب. دعك من السؤال عمّن يكون أهلهم، الآباء والأمهات، وعن قرار اللجوء ومتى ولماذا وكيف... هؤلاء أطفال وحسب. أكبرهم لم يبلغ الحُلم وأصغرهم ما زال رضيعاً.
عشرات الأطفال، صبية وبنات، يتحلّقون حولك بوجوه تضج بهجة. إحداهن، عيناها خضراوان، شقراء مرحة، تشكو تقشّر جلد أنفها. بين شمس النهار وبرودة الليل، في العراء، لا بد للجلود أن تتبدّل. حسناً، تلك أهون المصائب. هؤلاء الأطفال لا يعرفون شيئاً عن «القضيّة».
تلمس بيدك أعمدة الخيم فتعلم أن أي عاصفة كفيلة باقتلاعها


لا يكفّون عن الضحك، كل الوجوه هنا باسمة، باستثناء وجوه الأمهات والجدّات. الكبار يعرفون كل شيء. لا رجال الآن في المخيّم. في النهار فقط نساء وأطفال. بعض الرجال في العمل وآخرون في سوريا، بقوا هناك، وذلك لأسباب توزاي ربما أسباب الخراب السوري.
الأطفال، المتوسطو العمر، يعرفون أنهم من حلب. تدخل الأم على الخط لتضيف: من خناصر ومن الريف. ثيابهم ريفية بامتياز. ليسوا من البدو، ولا الغجر، ولكنهم الآن غجر بكامل ألوان الثياب.
مئات مثل هذه المخيّمات تقوم اليوم على الأراضي اللبنانية. مخيّم البقاع هذا، أو مخيّم الطريق المقفر، ليس سوى نموذج. قبل أن تراهم، لا شك أنك سمعت في الإعلام بمختلف أنواعه عن الوضع المأساوي في تلك المخيّمات. أنت تعرف، قبل أن ترى بعينك، أنها في نهاية الأمر... «مخيّمات». لسنا في فندق طبعاً، لكن، ولأن الإعلام «يزيدها» أحياناً، قد تظن أن تقاريره فيها شيء من المبالغة، لكن عندما ترى، مباشرة بلا واسطة، تنتبه إلى أن تلك المقولة الصوفية «كل شيء في الدنيا سماعه أعظم من عيانه» لا تصحّ هنا. تلمس بيدك أعمدة الخيم، حيث لا أعمدة، فتعلم يقيناً أن عاصفة متوسطة القوّة كفيلة باقتلاعها. في اليوم التالي لزيارة المخيّم هبّت العاصفة. حينها لم نكن هناك. تُرى هل طارت الخيمة، أم هبطت، وهذا الأرجح، أم ماذا حصل؟ بكل بساطة: لا نعرف. كيف قضوا تلك الليلة الباردة، والليالي التي تلت، وكل ليالي الشتاء عند ذاك الطريق، الباردة. جدّاً باردة. الأرصاد الجويّة دائماً ما تذيع أن درجة الحرارة في تلك المنطقة تصل إلى ما «دون الصفر». إن كنت تظن أن تلك الخيم، في كافة المناطق، فيها وسائل تدفئة، صوبيات مازوت مثلاً، فما عليك إلا بزيارة ذاك المخيّم. ستعلم أنها ظلّت وعوداً رغم حلول الشتاء. الوزارة استنفدت الميزانية و»الأمم المتحدة تكذب». تكذب! ما الجديد! ستأخذك الأم، وإلى جانبها الجدّة، من بين الأطفال لتدخلك الخيمة حتى ترى بنفسك. هل ترى صوبيا؟ خيمة معتمة تكاد تقع في أي لحظة.
في الخارج، بعيداً عمّا يُسمّى خيمة، كانت امرأة طاعنة في السن، ربما تكون الأكبر عمراً بينهن، تجمع الحطب وتكسّره قطعاً صغيرة. الحطب عدّة الصمود. وحدها العجوز لم تطلب شيئاً، لم تشكُ، تبتسم وتطلب فقط أن نرسل لها الصور لاحقاً. يبدو أنها تعرف الحقيقة أكثر من الأخريات.
أن تحمل كاميرا، ثم تدخل إلى مخيّم اللجوء، فهذا يعني بالنسبة إلى القاطنين أن بإمكانك أن تفعل شيئاً لهم. أن توصل الصوت أقلّه إلى المعنيين. ها نحن نوصله. قبل أن تغادر المخيّم، تذكر إحدى الأمهات أن بيتها أصبح خراباً في ريف حلب. بيتها لم يكن قصراً، بالتأكيد، لكنه، بالتأكيد أيضاً، لم يكن خيمة. ما من أحد يُحبّ العيش بإرادته في خيمة. تدعو على الذين «أوصلونا إلى هذه الحال». من هم هؤلاء، من تقصدين، ها هي تصمت... تلك حكاية طويلة. دعك من ذلك، فقبل الكبار وبعدهم، الأطفال، هؤلاء الذين ليس لهم قرار في شيء، ماذا عنهم؟ هم المتلقّون، وغداً يكبرون، ستكبر معهم ذكريات اللجوء والمخيّم وحملة الكاميرات... والبرد القارس.