موسيقى صاخبة تتسلل من النوافذ المجاورة

عندما قالت أمي إني أشبه نينا سيمون في حفلة «مهرجان مونترو للجاز» عام 1976، لم أرغب في إطالة شعري مجدداً. أتيت بشعري الحليق إلى لبنان، مع راديو صغير وكاسيتات لساركودي وبيكا وغيرهما. أسمعها ليلاً قبل النوم، هكذا أتذكر غانا على الأقل، تصبح الفرشة طرية وأغفو بهدوء. لو أن البيوت تلتصق هنا، كبيوت تيسانو في ضواحي أكرا. في لبنان أتمنى أحياناً، من دون جدوى، أن تتسلل موسيقى صاخبة من النوافذ المجاورة، لتمتزج بتلك التي تخرج من آلتي الصغيرة. صحيح أن العمل في غانا مضن، لكن التعب كان يشحن أجسادنا للرقص بجنون، في بارات الأحياء الضيقة ليلاً. شاهدت الناس يرقصون هنا مرة في عرس قريب للعائلة التي أعمل معها. كانوا يبالغون في لباسهم، ويولون النظرات المصوّبة عليهم أهمية كبيرة. أظن أن هذا ما أفقد رقصاتهم ألقها. بدت خرقاء تماماً، فبالكاد يستطيع أحدهم تحريك مؤخرته. أحببت صوت فيروز عندما شاهدتها في حفلة قديمة على تلفزيون لبنان، لكنها لم ترقص تلك الليلة. اكتفت بهزّ كتفيها بروتينية مفرطة. كنت ألجأ إلى الخيال، فأخرج بمشاهد طريفة لجسد فيروز الراقص. الخيال كان خلاصي في كنائس أكرا أيضاً، التي إذا ما خلت من الآلات الموسيقية، لن يبقى ما أذهب من أجله. حين كنا أنا وصديقتي بياتريس نستمع مرة إلى الكلمة المملة لواعظ الكنيسة، رددت في أذنها جملة جو سامبل: «music is real, the rest is seeming». كافرة قالت لي، ولحقت عباراتها ضحكاتنا الشاهقة.

أستفيض في استعادة الذكريات لأنه لا يوجد ما يبدو حقيقياً هنا، لا الرقص ولا الموسيقى. باستثناء الأذان الذي يفتقر لصوت امرأة، وطبعاً للموسيقى التي أسمعها ليلاً فتقترب غانا مني، ويلفنا النوم معاً.
(غرايس – غانا)


أمسك بجديلتي الطويلة وبدأ يحرّر خصلاتي ويقبّلها

للوصول إلى دكا، كان علينا أن نقطع مسافة ثمانين كيلومتراً يومياً. نقضي 12 ساعة في مصنع الخياطة ونعود منهكين. بعد سنة انتقلت للسكن في بيت عمتي في دكا، وقضيت عندها سنتين. كنا خلالهما نمشي نصف ساعة نحو المصنع. هكذا أكملت سنواتي الثلاث في العمل، مقابل بضع دولارات يومياً، إلى حين اتخذت قراري: الوضع في بنغلاديش لم يعد يطاق. ما زاد الأمر سوءاً هو خياراتي المحدودة، لهذا جئت إلى لبنان. هنا تعلمت العربية، والهندية بفضل الأفلام. تفوّقت على صاحبة البيت في طهي الملوخية. لم يعد أحد يسألني عن الصلاة، فأقلعت عنها. تخليت عن الحجاب أيضاً، لأنني أبدو أجمل. هذا ما قاله محمد عندما رأى شعري للمرة الأولى. قال إنه جميل. أمسك بجديلتي الطويلة وبدأ يحرّر خصلاتي ويقبلها. بيروت مدينة متعبة بحقّ، لكني أحبها. هل يمكن لأحد تخيل هذا السيناريو؟ لقد التقيت بمحمد البنغالي في بيروت، لا في فاريتبور ولا في دكا. محمد شطّب حياتي السابقة. جئت وأنا في الخامسة عشرة من عمري، لكنهم زوروا جواز السفر فأضافوا إلى سنواتي ثلاث. أنا التي سهوت عن حياتي طويلاً، كدت أنسى عمري الحقيقي. كدت أنسى كل شيء، الفرح، وجسدي الصغير، وأصابعي التي أنهكتها آلات الخياطة. حين أفكّر أننا، محمد وأنا، سنتزوّج ونستقر في بيروت، المدينة التي تعارفنا فيها، أتأكد أنني نجوت من كهولتي المبكرة. لقد استعدت أحلامي الطرية أخيراً. أحدّق بها جيداً الآن، وأراها تظلل حياتي معه.
(روكيا ـ بنغلاديش)


عطر بلدتي هورانا

الأخبار التي وصلتني من سيريلانكا، بددت كل رغبة بالعودة إليها. بالكاد خرجت من غرفتي حين عرفت أن زوجي تزوّج، و أن ابنتي هربت مع عشيقها. حتى المال الذي أرسلته إليها كي تجري عملية لعينها، أنفقته معه. لا إقول أني لا أحب تلك البلاد، لكني بصراحة تأقلمت هنا. كبرت ابنتي خلال السنوات التي قضيتُها في لبنان منذ عام 1995. لا أظنها بحاجة إلي الآن، بل تشتاق بدل ذلك إلى محفظة الألعاب التي كنت أرسلها إليها. آه، لقد علمت أيضاً، أن زوجي ارتدى في عرسه ربطة العنق المقلّمة التي أهديتها إليه قبل سنوات. لا أحب استعادة تلك الذكريات لأنها تعتصر قلبي. أنا اليوم متفائلة، أصبحت مسؤولة عن البيت الذي أعمل فيه. يسافرون كثيراً وأبقى وحدي في المنزل. تزورني صديقاتي، حيث يكون بانتظارنا النبيذ والكستناء وأفلام تطالعنا بها الشاشة. على الأقل لا تنسى صديقاتي عيد ميلادي الذي كدت نفسي أنساه. يرددن أمامي، أنني صرت أشبه اللبنانيين، ويرفقن جملتهن هذه بضحكة عالية. لا أدرِ ما إذا كان من الجيد أن يشبه أحدهم اللبنانيين. لكن، على أية حال، أنا فرحة بذلك. لقد أصبحت «كوسموبوليتية» على الأقل. أكثر ما يقضي على وحدتي، هي الورود التي أتيت بها من سيريلنكا وزرعتها على الشرفة. إنها تكبر معي. لا يمكنني التخفي وراء عمري بعد الآن. بلغت أخيراً الخامسة والأربعين، لكن أحلامي شابّة 100%. أريد تعلّم قيادة السيارة أولاً. ومن حقي التفكر بشراء منزل صغير في هذه الضيعة. لن أنسى طبعاً ورودي «الكوسموبوليتية» التي تشبهني؛ تكبر هنا، وتحمل عطر بلدتي هورانا.
(رومينا ــ سيريلانكا)

مذكّرات كاتبة فيليبينية مجهولة

تنبهت إلى المكتبة بعد سنتين من مجيئي إلى لبنان. مكتبة صغيرة في زاوية شارع مقفر، تبيع كتباً مستعملة بالإنكليزية والعربية والفرنسية. وجدتها حين بدّلنا، ذات يوم، طريق العودة من الكنيسة في الحمرا، نحو الـ KFC في الكونكورد، حيث أتناول الغداء مع صديقاتي كل نهار أحد. تعلّقت بالمكتبة. ومع أن مكتبة الجامعة التي عملت فيها لسنتين، كانت تفوقها ضخامة، إلا أنها تستدعي ذكرياتي فيها. لم يكن إتقان الإنكليزية أمراً سهلاً. والجامعة لم تكن لتمنحني هذه الثقافة الواسعة لولا التهامي مئات الكتب لويليام فوكنر وهمنغواي ويوسا وسالينجر وبوكوفسكي وآلن غينسبرغ، ومسرحيات صاموئيل بيكيت وشيكسبير وغيرهما. شيكسبير الإله، إنه المفضّل لدي. كلما قرأت كلما أحببت الكتابة أكثر. اتصالاتي اليومية مع عائلتي في الفيليبين لم تحجبني عن الرسائل الورقية. أكتب الكثير منها قبل النوم وأضعها في الدرج بجانب سريري. كتبت مئات الرسائل لأهلي ولأصدقائي بالإنكليزية، حتى الجيران لم يفتني أحدهم، من دون أن أرسل واحدة منها طبعاً. لست بحاجة لهذا كله، سأستخدمها في كتابي ذات يوم. لقد توصلت، بعد سنوات من العمل في لبنان، إلى استبدال المهمات المنزلية مع صاحبة البيت، مقابل تدريس أولادها. استبدلت طموحاتي أيضاً. أعجبتني فكرة التعليم. قررت نيل ماجيستير الأدب الإنكليزي من «الجامعة الأميركية»، وتحصيل الدكتوراه بعدها. علي فقط أن أجهد في العمل وأجمع المال الكافي. أعلم أن المكتبة الهائلة لجامعتي في الفيليبين تنتظر مذكّرات كاتبة فيليبينية مجهولة تعيش في بيروت.
(دولاريس ــ الفيليبين)