تمرّ ساعات العمل بسرعة فالموسيقى الأثيوبية ترافق الضحك ولا ينقص «الجو» إلا شيء من نميمة عابرة، نميمة ودودة. والمقصود بالنميمة هنا الأحاديث الطريفة في حضرة العاملات اللواتي أتين لتصفيف شعرهن على طريقتهن. ستستمع هناك إلى سجالات عفوية كتلك التي تخاض في الصالونات. الترفيه عن النفس «متاح»، طالما أن صاحبة المتجر غائبة، ومنشغلة بإدارة الفرع الجديد لصالون سلام في الحازميّة. على مقربة من تقاطع الطيونة ــ بدارو، تلوذ العاملات الأثيوبيات بوقتٍ لأنفسهن. وقت مستقطع في ماراتون التعب الطويل. الصبايا اللواتي يمنعن من دخول صالونات تصفيف الشعر «العادية» (والأسباب ليست «ماورائيّة» إنما عنصريّة لبنانويّة رخيصة بطبيعة الحال) انتصرن أخيراً لأنفسهن بصالوناتٍ على مزاجهن. لا يحتجن إلى منّة من أحدٍ بعد الآن، وإن كان قرار «تهميشهن» وعدم استقبالهن في الصالونات الأخرى يظلّ عاراً آخر يضاف إلى جبين المجتمع الذي حفرت به العنصريّة حفراً وتجاعيد.
في الحافلة رقم 4 تبدأ الرحلة. الفان هو «الراعي الرسمي» للحدث. يمشي الهوينا ناقلاً العاملات، متى تسنى لهن ذلك، هرباً من رتابة الأيام إلى عتبة الصالون المُتنفس، سائق الباص يعلم سلفاً أن مفرق عين الرمّانة هو محط الرحال، فينصاع لرغبتهن ويعبر «فوق الجسر» قبل أن يركن ويهربن إلى عطلتهن.

في الصالون لا فصل عنصرياً، الصبايا يتدللن بلا تكلف. على مكتب الاستقبال الرئيسي تجلس ليندا، الصبية الهادئة التي جاءت من أثيوبيا قبل عامين، ولم تعتد بعد على «النوايا الحسنة». السائد، هنا، أن كل لبناني هو «مشروع عنصري»، ونحن لا نبالغ طبعاً. الحوار، وإن كان تلقائياً، فهو محكوم بحذر ليندا. احتاج الأمر إلى بضع دقائق لولادة ثقة بيننا وبين ليندا، قبل أن تحدثنا طويلاً عن «الكرنفال اليومي» في الصالون، إنه كرنفال منظم، وتحرص ليندا على استقبال الزبائن بناءً على دفتر المواعيد: «بالنظام»، كل شيء بالنظام (يا دولة الرئيس إن شئتم). أما دوام العمل، فمحكوم بالدفتر نفسه، إذ يبدأ النهار في تمام التاسعة صباحاً ويمتدّ، في الأعياد وأيام الآحاد، حتى الثامنة مساءً. في الأيام العادية، تتراجع وتيرة العمل قليلاً فتتفرّغ الصبية لنفسها. الاهتمام بالمظهر جزء من «برستيج» الصالونات، ويلتزم صالون سلام به. هكذا تقوم فريزا، العاملة الأثيوبية التي تشارك في إدارة المحل، بتسخين «الفير» المخصص لتجعيد الشعر على نيران الفحم. للوهلة الأولى، يبدو الأمر خطيراً ومخيفاً، وسرعان ما توضح نايا، الفتاة الصغرى بينهن، أن «الفير» لا يخضع لنيران الفحم مباشرةً، إذ تفصل بينهما قطعة معدنية صغيرة، ثمّ تستعين فريزا برذاذ السبيرتو لتحقيق تفاعل كيميائي سريع، وبذلك تتولد الحرارة ويصبح «الفير» جاهزاً للاستعمال، النتائج مبهرة وأنيقة فعلاً... «الأدوات الكهربائية للشعر الخشن غير مجدية»، على حدّ تعبيرها. طبيعة الشعر الأثيوبي تستدعي، في الأيام العادية، «تحميّة» مسبقة للـ«فير» لمدة لا تقل عن ربع ساعة. أما في الأعياد فلا تخمد نيران الفحم.
صالون سلام ليس الوحيد في بيروت. ينضم إلى اللائحة «صالون كوانجو» (Kuanjo) الذي افتتح، قبل نحو ستة أشهر، في منطقة السان تيريز. استثمر المتجر في مهن عدة ليصير، أخيراً، متنفساً للعاملات في الحيّ. الفكرة، بحسب صاحبة المحل، ليست جديدة: «المصلحة شهدت في السنتين الأخيرتين انتشاراً ملحوظاً في أنحاء العاصمة، ففي الشارع المقابل يوجد صالون أثيوبي آخر». يبدو أن الجميع أصبح، عن طريق الصدفة، «محبّاً» للشعب الأثيوبي.
مارثا هي صانعة الفرح في المحل، الساحرة التي تراوغ رؤوس الحاضرات بأصابعها، وهن يبادلنها اللهفة

توضّح السيدة رلى سويدان أنها تتشارك أرباح المحل مع مارثا لأنها «صاحبة المعارف»، وهي الخبيرة في شؤون الشعر الأثيوبي. السيدة سويدان ترى الأمر معقداً. بالفعل، من كان ليصدق أن حمام الزيت الملائم لنوعية الشعر الخشن يتم عن طريق طلي فروة الرأس بزبدة لورباك؟ الطريف في الأمر أن باكيت زبدة واحدة لا تكفي لسيدة واحدة أحياناً.
مارثا هي صانعة الفرح في المحل، الساحرة التي تراوغ رؤوس الحاضرات بأصابعها، وهن يبادلنها اللهفة. الكل بانتظار «الخدعة»... نهاية التصفيف. الصبايا في أيدٍ أمينة والجمهور صبور؛ النتيجة مضمونة: تسريحة إثيوبيّة رقيقة. إذاً، تصفيف الشعر «على الطريقة الاثيوبيّة»، نراه مبهراً في النهاية، لكنه يمر بمراحل عدة. التعامل مع الشعر الخشن يستدعي غسله وتنشيفه تحت معدات «الشفط» الكهربائيّة. «السيشوار» و«البايبي ليس» غير مجديين وهما بالأساس غير متوافّرين بين عدة التزيين في «كوانجو». وعلى غرار ما يحدث مع «الزميلات» في صالون سلام، لديهن مراحلهن. المرحلة الأولى يليها «التجديل»، ومارثا هي صاحبة الرقم القياسي في السرعة، تمرست حتى صارت قادرة على إنهاء المرحلة الأصعب في نصف ساعة فقط. تكمل سلام من حيث انتهت مارثا. تركيب الشعر المستعار فوق «الجدايل»، المسطّرة بعناية لافتة، يسبق تقطيبها. والتقطيب يتم لتثبيت «الباروكة» فوق الشعر الطبيعي، علماً أنها ستستكين على الرأس لفترةٍ طويلة، قد تمتد إلى ثلاثة أشهر أحياناً. اللافت في الأمر أن الاستحمام لا يلحق ضرراً بالتسريحة. في الختام، أحياناً تصفق سيدات ممازحات، التسريحات مبهرة، وقد صار الصالون الأثيوبي «مغنطيساً» جاذباً لبعضهن. سألنا سيدات لبنانيّات في الصالون عن حظر دخول أية عاملة أجنبية إلى الصالونات العادية، فابتمست مارثا. أشارت بعينيها نحو الحائط، حيث كتبت عبارة بخطٍّ عريض: «هنا، الجميع مرحّب به».