في البدء كانت الجدّة. زوجها خلف القضبان، وهي وحدها ستقاوم. أحضرت ماكينة لحياكة الصوف وغزلت بأناملها التعبة أوشحة وكنزات ملوّنة لا سوداء. وبألوان الألم، بقيت العائلة متماسكة. كبر الأطفال، وهم يعرفون الفرح. يقولون «كانت امرأة قاسية». الأمّ الوحيدة قاسية، لكن في قسوتها الكثير من الحبّ. غادرت العالم وفي رأسها صور كثيرة عن ابنة لم ترها لفترة طويلة وعن أحفادٍ يلعبون في دار المنزل الصغير يقطفون حبات الليمون من الحقل المجاور. تجلسهم في ذاكرتها، وتريهم الصور القديمة. صور الانتصار على المجتمع.
■ ■ ■


ثمّ جاءت الأمّ. اختارت حياتها. اختارت الانسلاخ عن المجتمع. لم يكن قراراً سهلاً أن تغادر جلدها وتعيش في كوكب آخر لم يتقبّلها كثيرون فيه. تمسكت وقاومت. صارت الغريبة لوقتٍ طويل، المرأة التي «ليست من ثوبنا». عاشت بين أديان الآخرين. تمسكت بخياراتها ضدّ المجتمع. لا يبدأ صباح بلا ابتسامة ولا ينتهي مساء إلا وصوت غنائها الفيروزي يكلله. لولا وجودها لانتفت العائلة من الوجود. تشتاق إلى صورها القديمة بدورها: الجدة تجلس على حافة منزلها الصغير وتنتظر.


■ ■ ■


ثمّ جاءت الأخت الكبيرة. تشبه الأمّ كثيراً في الصوت والرائحة والشكل. في القرية الصغيرة، رسمت أحلامها لتلاقي المدينة وحيدة. قاومت قباحة المدينة. تلك التي تكون في مرآة الريفيين قبيحة. بدت الأحلام مشوّهة لفترة. لكنّها انتصرت. ولدت قبل الجميع وأحبّت أكثر منهم وظُلمت وتعبت أكثر منهم. لكن الأحلام ممكنة ومكلفة في الوقت نفسه. أنتنّ مناضلات، جميعكنّ، ضدّ المجتمع. لكنكنّ ابتسمتنّ. أراكنّ في كلّ امرأة وأريد أن أنظر إلى نفسي يوماً وأهمس: أنا مثلكنّ.