باتت الكتابة عن «البطولات» التي يسطرها «مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية وحماية الملكية الفكرية» (ضابطة عدلية) مملة! آخر «المآثر» كان احتجاز الشاب كريم حوّا (21 عاماً) لمدّة أربعة أيّام، على خلفية «شير» (share) قام بها على فايسبوك لمقال يتهم وزير الداخلية نهاد المشنوق بـ«تلزيم شركة تتعامل مع إسرائيل».اللافت هنا، ليس فقط «جريمة الشير» بل أيضاً طريقة الاستدراج التي سبق لصديق حوّا المقرّب كلود جبر أن رواها لنا (الأخبار 15/11/2014): «اتصل به المكتب لإخباره بأنّ هاتفه سُرق وعليه المجيء». هكذا، احتال المكتب على الشاب ولم يستدعه بطريقة قانونية.
«جريمة الشير» هذه لم تكن الأولى من نوعها، إذ لطالما نصّب هذا المكتب التابع للشرطة القضائية نفسه رقيباً على نشاط الصحافيين والناشطين الإلكترونيين، بدءاً بالمقالات، وصولاً إلى البوستات والتغريدات وحتى الـ shares. هكذا، راح يستدعيهم الواحد تلو الآخر للتحقيق معهم في شكاوى قدّمها أطراف عدّة، بينهم سياسيون و«عرّافون»، كما حدث مع الصحافي ربيع فرّان. ففي أيلول (سبتمبر) عام 2013، استدعي الأخير بناءً على شكوى رفعتها ليلى عبد اللطيف على خلفية مقال نشره على موقع «مختار» الإلكتروني، قبل أن يوقّع تعهّداً بعدم التعرّض لها. وهناك أيضاً حادثة التحقيق مع الصحافي مهند الحاج علي أثر شكوى «قدح وذم وإثارة نعرات» ضد مجهول رفعها رئيس حزب «القوّات اللبنانية» سمير جعجع على خلفية مقال نشرته مدوّنة «المحاسبة» بعنوان «رسالة من قدامى القوات إلى سمير جعجع». يومها، ظنّ الجميع أنّ «مكتب الجرائم الإلكترونية» لن يتعرّض للصحافيين والناشطين اللبنانيين بعد الضربة التي تعرّض لها (الأخبار 18/9/2013).
وبما أنّ سبحة الأشخاص الذين استدعاهم المكتب على هذا المنوال طويلة جداً، فمن الأفضل التطرّق إلى الجانب القانوني. المحامي نزار صاغية أكد «عدم قانونية» المكتب نظراً إلى أنّ قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي ومرسوم تحديد التنظيم العضوي لقوى الأمن الداخلي لا ينصان على إنشائه. كما أنّه أنشئ بموجب مذكرة خدمة، لا بموجب مرسوم. وتحدّث صاغية عن «خطورة على الحرّيات في لبنان، بعدما راحت صلاحيّاته تتسع»، مشدداً على أنّ «كل معلوماتنا الإلكترونية مستباحة من قبله، ولا ضمانات قانونية لسرّية المعلومات، أو أخرى تحدّ من صلاحيّاته»، وعلى وجوب استئناف البحث في قانون إعلام جديد.
رأي، سبق أن أيّده النائب غسّان مخيبر في اتصال معنا، مشيراً إلى ضرورة «بتّ قانون الإعلام لتوسيع قانون الحماية، وإعطاء ضمانات لكل العاملين في الصحافة، وخصوصاً الإلكترونية»، وهو ما أكده أيضاً المستشار القانوني لجمعية «مهارات» طوني مخايل.
اليوم، ومع زيادة وتنوّع الحالات التي يستدعي فيها المكتب مدوّنين وناشطين على الإنترنت للتحقيق معهم، يصبح السؤال ملحاً حول الأسباب التي أدّت إلى توسّع صلاحياته إلى هذا الحد. المحامية نادين فرغل تؤكد لـ«الأخبار» أنّ «المشكلة تبدأ من النيابات العامة التي تتولّى مهمة تحويل القضايا إليه للتحقيق فيها». لماذا تفعل النيابات العامة هذا؟ «عادةً، تُرسل هذه الأخيرة إلى «مكتب الجريمة الإلكترونية» القضايا المتعلقة بالمعلوماتية، وخصوصاً تلك المرتبطة بالجانب التقني. لكن في الفترة الأخيرة، يبدو أنّها باتت تستسهل الموضوع وتبعث إليه كل هذه الأنواع من الملفات مهما كانت حيثياتها، نظراً إلى وسيلة النشر (الإنترنت) وليس إلى طبيعة الجرم. وهذا ما أدّى إلى توسّع صلاحياته إلى الدرجة التي وصلت إليها اليوم»، تقول. وتلفت فرغل إلى نقطة مهمّة جداً، هي أنّه في بعض الأحيان يستفيد هؤلاء من طبيعة المكتب كضابطة عدلية وطرق التحقيق التي تجري داخل أروقته الشبيهة بما يحدث في التحقيقات الجزائية (في المخافر مثلاً)، مثل عدم السماح لمحامي المدعى عليه بأن يكون معه أثناء التحقيق. أي أنّه يحرم الشخص من حقّه في الدفاع عن نفسه، ويساهم في ممارسة ضغط أكبر عليه، إضافة إلى دفع الأشخاص إلى توقيع تعهدات، عدا عن التحقيق معهم في قضايا يجب أن تكون أمام قاضٍ مختص». في هذا السياق، كان طوني مخايل قد لفت إلى أنّ توقيع التعهّدات «لا ينفي حصول الفعل»، كما أنّ هذا النوع من التعهدات لا يتعلّق بأصول «سير الدعوات الجزائية، بل يُضمّ إلى سائر الأقوال والإفادات في محضر التحقيق، ولا يمثل سبباً لعدم الادعاء، وبالتالي تبقى الدعوى مستمرّة، وخصوصاً أنّ المدّعي ما زال مستمرّاً في شكواه».
برأي المحامية نادين فرغل، المطلوب اليوم هو «قوننة هذا المكتب»، لكن إلى حين أن يصبح هذا ممكناً يجب أن تبتعد حالات الاستنكار عن «الفردية، ونشكّل تحرّكاً ممنهجاً، كمكتب متابعة مؤلف من محامين وصحافيين ومؤسسات صحافية وغيرهم. وقبل كل ذلك، علينا إرشاد الناس إلى حقوقهم وواجباتهم أثناء التحقيق معهم». لكن ألا يُعتبر الأمل في تحقيق هذا الأمر والوصول إلى «قوننة المكتب» ضرباً من الخيال في ظل الواقع اللبناني، وخصوصاً اليوم؟ الجواب بالنسبة إلى نادين فرغل بسيط: «علينا أن نطلب الحد الأقصى لنتمكن من إحداث تغيير ما. فلو كانت كل مطالب الناس معقولة، لما تحقق أي شيء!».