من بين حنايا جرود وأحراج قرى بعلبك ـ الهرمل تتصاعد سحب دخان عشرات مشاحر الفحم. يدرك أصحاب تلك المشاحر أن ما يقومون به مخالف للقانون، وأن مردوده المالي «ضئيل جداً، ولا يردّ تعبنا الجسدي» كما تقول سميرة (اسم مستعار). لكن الفتاة الثلاثينية تجد نفسها «مضطرة»، وشقيقها الأصغر سناً منها، إلى إقامة ثلاث إلى أربع مشاحر في السنة، بغية تأمين لقمة عيش عائلتها، التي تضم والداً طعن في السن، ووالدة مريضة، وشقيقة أخرى.
تدافع عن وجهة نظرها بإعداد المشاحر وبيع الفحم، بالقول «شوف إيديّي، ما تفتكر أنه حدا بيرضى يشتغل بالمشاحر، إذا لم يكن مجبراً أو مضطراً، واللي عايز الجمرة بيلقطها بإيدو». تشرح سميرة وهي تشرف على وضع اللمسات الأخيرة للمشحرة التي تحضّرها مدى صعوبة العمل «بالشحتار والدخان وسهر الليالي مع كل التعب الجسدي، وفي النهاية ينافسك التجار الذين يستوردون الفحم الأجنبي، فلا تجني من مشحرتك إلا مبلغاً بالكاد يصل إلى المليون ليرة (من إنتاج مشحرة 2 طن فحم)... لكن «الحمدلله أفضل من إنك تمد إيدك للغير وتطلب منه». من سُخام أيامهم الصعبة يلجأون إلى المشاحر وفحمها، من أجل تأمين لقمة عيش عائلاتهم في مناطق لم تصل الدولة بإنمائها إليها، ولا حتى بوظائفها أو مستوصفاتها الطبية. حسين صاحب مشحرة في جرود السلسلة الغربية. لجأ أيضاً إلى إنتاج الفحم بعدما أثقلته البطالة، «لم أترك دورة للتطوّع بالدولة والقوى الأمنية إلا وتقدّمت إليها، لكني لم أوفّق، لذا وجدت أنه من الأفضل لي أن أعمل بالحطب ومشاحر الفحم عوض البقاء في البيت وانتظار من يطعمني».
تتطلّب مشاحر الحطب عملاً شاقاً ومضنياً بحسب أصحابها، فالتحضيرات تبدأ بتشحيل أغصان وفنود أشجار السنديان بطريقة صحيحة حتى تعود و«تفرّخ الأشجار من جديد»، ومن ثم يجرى جمع الأغصان و«تشفيتها» من الفنود الصغيرة، و«البرباص» (ورق أشجار السنديان). أما المرحلة الثانية فتتضمن إقامة هيكل هرمي للمشحرة، تُصفّ فيها الأغصان بشكل متناسق على الهيكل الهرمي وتغطّى بأوراق «البرباص» ومن ثم بطبقة من التراب بهدف منع الأوكسجين الذي يشعلها. مرحلة تجهيز المشحرة وبنائها، لا تقل تعباً جسدياً عن مرحلة إشعال المشحرة، كما يشرح حسين، فبعد وضع بعض الجمرات داخل الكوّة التي تعلو رأس هرم المشحرة، تبدأ عملية الاحتراق بطريقة «العسيس» (الاحتراق البطيء جداً)، «ويتطلب الأمر عندها أن يبقى صاحب المشحرة إلى جانبها طيلة أسبوع كامل بنهاره وليله» بحسب حسين، عازياً ذلك إلى «منع اشتعالها إذا ما تسرّبت من مكان ما، فتحترق عندها بالكامل ولا يبقى فيها فحم ويضيع تعبنا».
بمرور أيام الأسبوع على احتراق المشحرة، ووصول النار إلى «كعب الهرم»، تبدأ مرحلة «نبشها وكشفها» وفرز فحمها وقصّ العيدان بشكل متواز وتوضيبها داخل «كراتين أو أكياس خيش» تمهيداً لبيعها.
تحتاج كل مشحرة فحم إلى فترة زمنية قد تزيد على الشهر من الإعداد والتجهيز بحسب كميتها، إذ يتراوح وزنها بين الطن والأربعة أطنان، وكل طن يعطي مبلغ 500 ألف ليرة لصاحبه. يجمع غالبية أصحاب المشاحر أنهم لا يتسبّبون بأية أضرار لأحراج السنديان، «وخصوصاً إذا كان التشحيل بأوقاته ووفق الأصول»، مشدّدين من جهة ثانية على أن «التجار يتحكّمون بالأسعار ويحققون الأرباح، حيث يشترون المشحرة بسعر ضئيل وعند طرحها بالأسواق يرفعون سعرها على المستهلك».
من المشاكل التي يواجهونها أيضاً المنافسة الخارجية باستيراد التجار الفحم الأجنبي والأفريقي «رغم أن نوعية وجودة فحم السنديان اللبناني لا يضاهيهما أي نوع فحم آخر».