لعلّ الفكرة الأولى، التي تراودني حين يرن جرس المنبه باكراً في صباح الأحد، هي: لماذا أتعب نفسي، ولا أنعم بكسل يوم الإجازة، بعد أسبوع حافل بالعمل؟! ولكن، ثمة ما أجهله يواجهني بطرد هذه الفكرة عني، ينفض الغطاء الدافئ عن جسمي، ويدفعني الى حوض الاستحمام، فتحضير القهوة، قبل الاستعداد لمغامرة المشي الأسبوعيّة.إنها الثامنة بتوقيت بيروت، الجمع الآتي من بقع مختلفة، ليس أبلغ من الأزياء واللهجات في عكسها، يجتمع في «فرن الشباك»، وما يلبث أن ينطلق في حافلات، برئاسة شاب وسيم، لا يتخلى عن جديته، حتى في نشاط بيئي ترفيهي من هذا النوع، ما ينجح هذا الأخير!

وسواء كان الهدف بقعاً شمالية وعرة، أو تضاريس في جبل لبنان، أو حتى أماكن «جديدة» في الجنوب والبقاع، فإن هذا الموعد الأسبوعي يضاعف عمل حواس المشارك فيه، ويستهل بدقائق من تمرينات الاحماء، وبتعارف سريع بين أفراد يعدّون بالعشرات، مبيّناً أن جلّهم مدينيون، بالمعاش وليس حصراً بالهوية، بأعمار متفاوتة تشمل الأطفال والمسنين، جاؤوا للمشي في الطبيعة، والتعرف إلى غناها البيولوجي، كما الإفادة من هواء نقي لا تألفه رئاتهم دوماً والتواصل أو ربما تعزيز عزلاتهم الداخلية.
هناك، يمتثل الجميع لقواعد الامتناع عن التدخين، ورمي القاذورات في مسار المشي المحدّد، ومسّ رزق الآخرين من أشجار مثمرة. وهناك، تسر حين يستخدم الدليل سكينه لقطع الأجمة، داعياً إياك إلى السير في أرض عذراء لم يطأها أحد من قبل، ولا تأبه للرذاذ المباغت على حين غرة، وذلك في اللحظة التي تشعر فيها أن رجليك بدأتا تخونانك تحت وطأة الكيلومترات التي قطعتها في تسلّق مرتفع، معزياً نفسك في أن السماء تنظر الى حالك التعبة! كما لا تبالي في «علات» نشاط مماثل من غرق قدميك في الوحول تارة، أو العرضة لدبق بعض النبات أو وخز أشواكه لجلد يديك، إذ تدفعك الروعة، التي تحوطك، الى التغاضي عن هذه «الصغائر».
وهناك، يطرق بالك مدى جحود أهل هذا «الكيان» بمضامينه الثمينة، التي تحتاج الى بعض الجهد لكشفها، خصوصاً حين تنسدل خيوط قرص الشمس على النبات، فيتمايل متوهجاً على إيقاع خرير سلسبيل، ناثراً شذى الصعتر النفّاذ بينها!
وهناك، تُسقط فكرة الوطن المتخيّل عند الأخوين رحباني على ملامح القراميد المتلألئة، قبالتك، في إحدى القرى، التي لم تتخلّ بعد عن قرويتها، بعد واد قطعته، فتبتسم لسذاجتك المرافقة لحالات التجلي!
وهناك، تتعدّد الصور الاجتماعية، فتعجب مثلاً بمبادرة ثنائي شاب في جمع عبوات الماء البلاستيكية من المشاركين بهدف اعادة تدويرها، كما تتعرف الى مسنّ يوثق هذه الرحلات في كتب، وإلى مؤلف قصص خيال علمي غير مسوقة في المكتبات، وإلى أربعيني يطلعك على قراره في التخلي عن كلّ ما كان يعتاش منه بغية إعادة اكتشاف ذاته، وإلى سائقة سيارة أجرة تتحدث عن بعض ما يواجهها في يومياتها كمفاجأة راكب بجنسها وعدوله عن الاستعانة بخدماتها بحجة غيرة زوجته!
وهناك، تنتبه الى أن «الله أكبر» المنطلقة من جوّال أم شابة - في تنبيه الى صلاة الظهر- لم تُقابل بأي استهجان من الموجودين مختلفي المشارب، سوى من ابنتيها المراهقتين غير الراغبات في إعلان هويتهما الدينية، لتقابلهما هي بالنهر!
وهناك، تتأكد أن أنصار الطعام الصحي والباحثين عن المزروعات العضوية ليسوا بقليلين، وكذلك هم هواة تصوير الطبيعة الفرحين خصوصاً بموسم الخريف المنعكس على لقطاتهم بروعة ألوانه المحمرة. وهناك، تتيقن أن الفتيات والفتيان هم في خصام مع اللغة العربية وتوابعها، وأن الطبقة الوسطى لا تحتضر كما يروج. ولا تسمع تردد المفردات والتعابير اليومية، على غرار: «النصرة» و»داعش» واللاجئون السوريون والإرهاب والانتخابات المؤجلة... علماً بأن بعض السوريين يشارك في هذه الرحلات، وكذلك بعض الأجانب، من عاملين في لبنان، أو سائحين. وفي خلال هذه المسارات، التي لا توفّر المحميات والأراضي الزراعية، قد تسيء النية إلى مصدر «ثروة» أحد النافذين، بعد اجتياز دونمات «هائلة» خاصة به في البقاع، وتهزأ من تهربه في إعلانها «محميّة»، خشيةً من مشاركة وزارة البيئة في الإشراف عليها أو الملكية فيها! وكذلك، تأسف حين تواجه في جبل لبنان عشرات الصيادين، في موسم صيد «المطوق»، جاذبين طرائدهم إليهم بصوت مسجل لزقزقة الطيور، قبل أن تتدرى من طلقات بنادقهم القريبة! وتمتعض كيف أن السير في بعض مناطق الشوف، حتى في خارج المحمية الشهيرة لا يستقيم بدون دفع بدل رمزي «مستتر»! ولو أنك تثني على تنوع هذه البقعة الجغرافية المحفوظ بدراية، مقارنة بأماكن أخرى مستسلمة لــ»وحش» الكسارات! وتعرف أن في عكار مسارات بديعة كغابة «القموعة» بــ»فنيدق»، التي يدفع المشي فيها، خريفاً، الى تلألؤ الوجه لجمالها، وخزن الذاكرة لمشاهدها البديعة غير المغضنة، كما بعض الوجوه التي تستضيفها وسائل الإعلام!
وتجدر الإشارة إلى تعدّد المجموعات، التي تتولى نظم هذه النشاطات لقاء بدل مادي متفاوت، حسب قرب أو بعد المسار المحدّد للمشي، معلنة بذلك بدائل مغرية أكثر من الاستسلام للخمول في نهارات الإجازة، أو لدسامة غداء الأحد، ومعززة للرباط مع هذه الجغرافيا التي اخترناها طوعاً للعيش.