القاهرة | مقهى المواعيد المهمة أحياناً والاكتئاب غالباً والقراءة صباحاً والكثير جداً من القطط، وشارب «طلال» بطل المشهد دائماً. سوق الحميدية هو مقهى له خمسة أبواب، وقد تناقشنا من قبل، أنا وعدد من أصدقائي، عما إذا كان هو مقهى «خمسة باب» الشهير الذي دار حوله فيلم عادل إمام ونادية الجندي الشهير، رغم أننا نعلم طبعاً أنه ليس هو.
نتحدث هنا عن المقهى الذي يمتلكه شقيقان سوريّان، أقاماه وصمماه على طراز المقاهي السوريّة، ويسكنه العديد من القطط، وبعض الزبائن الذين يرتادونه، للعمل والكتابة والثرثرة. فكّرت يوماً أن أكتب قصة فيلم مستوحاة من شخصية أحد الشريكين في المقهى، ذلك الرجل الذي ليس هو طلال والذي لا أتذكر اسمه مهما قيل لي. فلنسمِه «فهد».
و«فهد» هو رجل، من سكان حيّ «وسط البلد» بقلب القاهرة منذ سنوات طويلة، وصاحب ذلك المقهى، الذي يقع في إحدى أهم المناطق في العالم خلال السنوات الأخيرة، حيث يبعد عن ميدان التحرير ما لا يزيد عن 100 متراً. دعنا الآن من تاريخ «فهد»، ومقهاه ولنلتفت إلى مستقبل العالم المرهون برجال مثل «فهد». في صباح أحد الأيّام الكئيبة وبعد قيام الشعب بثورة مهيبة، وبعد الفنجان الثالث من القهوة، تحدّثنا قليلاً سويّاً عن الأوضاع الراهنة، وصفقة الجيش والإخوان. وقد تجاسرت أنا وأحد أصدقائي وانتقدنا «الفاشية العسكريّة»، حتى تطوّر الأمر وكاد صديقي أن يضربه لولا أنه «رجلاً كبيراً»، على نحو تعبير صديق، الذي غضب بشدة لأن الرجل «كان يسب الثوّار».
يومها تمتم «فهد» كلمات غير مرتّبة عن المؤسسة العسكرية المصرية وكونها هي الحاكم الأزلي لمصر منذ عهد محمد علي، بل من عهد أحمس «خير أجناد الأرض»، كما وصفه «فهد». وأضاف مدافعاً عن قمع أجهزة الأمن للمتظاهرين والقتل والعنف والتعذيب على يد أفراد الأمن قبل ما وصفه بـ «الحرب العالمية الثالثة» ضد الإرهاب، وأضاف عبارات أخرى تناصر الأنظمة المستبدّة فقط لكونها مستبدّة. حسناً، هذا الرجل فاشيّ بكُل ما تحمله الكلمة من معنى. ذات يوم قررت أنا وصديقي أن نراقب هذا «الفهد». جلسنا في المقهى حتى أغلق أربعة أبواب، ثم طفنا حول المكان ملقين التحيّة على الجالسين على المقاهي المجاورة، في محاولة لعدم لفت نظر الرجل، وحينما عدنا صوب «مقهى الحميدية»، كان فهد قد بدأ حركته.
تتبعناه عن بعد بحذر، حتى رأيناه وقد دخل إلى السوبر ماركت، ودخل صديقي خلفه. أخبرني بدهشة حينما خرج أن الرجل قد اشترى كمية كبيرة جداً من «اللانشون» الرديء والذي صنع من اللحم المجفف، كما اشترى صحوناً من فلّين. لم أتأثر كما فعل صديقي، وانتظرنا «فهد» حتى غادر، وتتبعناه مرة أخرى، حيث سار نحو وزارة الداخلية، وأخذ «شارع «فهمي». ذلك الشارع الصغير ذو الإضاءة الخافتة والسور الحجري الذي شيّدته أجهزة الأمن، التي احتلّت شوارع وسط العاصمة خلال ثورة 25 يناير، أي بعد هدم سور برلين بسنوات كثيرة. فجأة ظهرت القطط من كل حدب وصوب، قطط كثيرة جداً ومن كل الأشكال والألوان والأنواع، وراحت تسير خلفه بخفّة كأنها تسير إلى جوار صاحبها، وهو يسير بينها، كما لو أنه «ملك القطط». انزوى الرجل في ممر عتيق ومظلم، وافترش الأرض وبدأ في رصّ صحون الفلّين وتفتيت اللانشون بها، بينما التفت القطط حول الصحون تأكل بنهم. ومن حين لآخر كان يخرج فأراً ليشارك القطط في الأكل. ومن الواضح أن «فهد» اعتاد إحضار الفأر يوميّاً، ليشارك القطط وجبتها. هذا الرجل إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. هذا هو النوع الأخطر من الاضطراب. هؤلاء البشر مجانين، العالم في خطر.