من المعلوم أن البيارتة يستسيغون مذاق الطعام الحلو، والمعلومة موثقة في كتاب الشيخ محمد بن عبد الجواد القاياتي «نفحة البشام في رحلة الشام» الصادر عن «دار الرائد العربي». يكتب القاياتي، وهو عالم بارز مصري الجنسية، بعد زيارة ولاية بيروت في سنة 1882، عن حظوة «الحلواء» ومكانتها في يوميّات أهلها، التالي: «ان اعتناء أهل بيروت باللحم قليل جدا، فالرطل الشامي (1785 غراماً) يسد مسدا ويكفي العدد الكثير عدّا، ومنتهى رغبتهم وجود أنواع الحلواء في المائدة، فيقولون: قدِّم لنا المحلي والتطلي (المربى)، وبعد وجود هذا الطعام فعلى الدنيا السلام، فهذا غاية المرام!».
ووصفة «المفتقة» المحضرة من الطحينة والأرز المصري والسكر والكركم (العقدة الصفراء) والصنوبر، كانت تعد في مناسبة «أربعة أيوب» الموافقة في الأربعاء الأخير من شهر نيسان (أبريل)، حين كان أهالي المدينة ذات الأبواب السبعة يفترشون الأجزاء الرملية من شاطئ بيروت، بين صخرة الروشة، التي كانت تقابلها تلّة بيت نجا، وصولاً حتى ملهى «ايدن روك»، أي في المكان الذي تتمركز فيه سفارة الإمارات، اليوم، مروراً بالرملة البيضاء. يأتون بشيبهم وشبابهم وأطفالهم، ويتبادلون أطباق هذه الحلوى المحضّرة سلفاً، أو يشاركون في طهوها، هناك، فيما هم يتجاذبون أطراف الحديث عن مشاريعهم في الاصطياف في رأس بيروت والأوزاعي، حيث كانوا يستأجرون العرازيل لهذه الغاية.. في انتظار أن «يفتق سارج القدر»، أي أن يطفو زيت الطحينة، مغلّفاً كتلة «المفتقة»، وذلك بعد عمليّة مضنية تتطلّب ساعات!
و«أربعة أيوب» ذكرى لطالما كانت يحيِيها قوم المدينة، بصورة منتظمة، حتى ستينيات القرن الماضي، لاستذكار العبر من قصّة النبي أيوب، الذي ابتلاه الله بماله ومتاعه وأولاده، وأخيراً ببدنه، فلم يبق عضو منه سليماً، إلا أنّه صبر على بلائه، ولم يزده الأمر إلا إيماناً بربه. وبعد 18 سنة، استجاب الله لدعائه، وأمره بأن يضرب الأرض بقدمه، فانفجر منها الماء البارد، فاغتسل به وشرب منه، وعاد سليماً!
وفي اتصال بهذه الذكرى، كان البيارتة، بحسب المؤرخ الدكتور حسان حلاق، وفي حال إصابة أحدهم بأي عارض صحي أو نفسي أو مشكلة اجتماعية (المرض و«القرينة» والعقم وتأخّر سنّ الزواج عند الإناث...) يسبحون مرّات سبع، في منطقة الرملة البيضاء، على موجات سبع، اقتداءً بالنبي أيوب. كما، لطالما لازم طهو «المفتقة»، وتبادل أطباقها، التي تُزيّن بالصنوبر، هذه الذكرى. ولكن، يشكّك بعض المراجع في صحة الرواية القائلة بأن النبي أيوب اغتسل على شاطئ بيروت، إذ من المرجح أنّه فعل ذلك في نبع بمنطقة حوران السورية، حيث سكن أيضاً.
وبعيداً عن اختلاف المراجع، وخارج إطار «أربعة أيوب»، كان البيارتة يصحبون «المفتقة»، في أكياس جلديّة تحفظها طازجةً، إلى المقابر، بغية توزيعها على المساكين، فيجتمع هؤلاء فرحين برغيف الخبز صغير الحجم، الذي يقدّم مع هذه الحلوى، مقابلين «الإحسان» بالرحمة على روح الراحل، حتى تحول اسم هذا الطقس إلى «رغيف الله يرحمو»!
ويكمن السرّ خلف هذا الطبق، حسب العارفين، في جودة الأرز المصري (يُحكم على مهارة المرأة في الطهو، عندما تفلفل الأرز المصري بدون أن تجعله يخبص في القدر) الغائب عن الأسواق اللبنانية اليوم، كما في الطحينة الأصلية، والحراك المتواصل للخليط الدسم في أثناء تحضيره، وهذا كفيل بأن يميّز طعم هذه الحلوى، ليتصف بــ «مفتقة بتعلك»!
وفي الموازاة، لا تُقابل «المفتقة» الجاهزة، التي تباع في محال الحلويات، بالثناء من قبل المسنين، أو ذوّاقة المطبخ البيروتي، إذ يقف هؤلاء موقفاً «معادياً» من إعدادها السريع في طنجرة الضغط (البرستو)! ولكن، هل من بقعة في هذه «العاصمة المجنونة»، يُعثر فيها على أهل يتكاتفون، شاغلين أيديهم في تحريك حلوى في داخل قدر لساعات تراوح بين 5 و6 ساعات، على نار خفيفة؛ فان وجدوا، لعلّنا سنتفاءل بغد أفضل يقينا من شطط «بيروتنا»!