«طالع على عنقون آكل قتلة». عبارة باتت الآن نكتة يتناقلها البعض، لكنها في السنوات الماضية، كانت حقيقة.، إذ لم يكن يخلو أسبوع واحد وأحياناً أقلّ، من دون «مشكل» يستدعي تدخل الجيش لضبطه. هذا فضلا عن الإشكالات الصغيرة «أهلية بمحلية» التي لا تذكر، حتى صار البعض يحمل همّ المرور من عنقون نحو البلدات الأخرى.فلماذا التصق هذا الصيت بالبلدة، التي يوصف أهلها بأن«عقلاتهم بعضلاتهم»، على الرغم من أنها تضم أكبر عدد من المثقفين والمتعلمين بين جاراتها في قضاء صيدا–الزهراني؟ يتوق من يقصد عنقون، لاكتشافها.
الرحلة إليها من صيدا، تمرّ بمغدوشة أو بدرب السيم وزغدرايا. ثلاث بلدات لا تزدان بتجاورها المسيحي – الشيعي فحسب، بل بهيبة كنائسها ومساجدها ومنازلها العتيقة وأحواض الزهر والشجر على جانبي الطرقات. عند مدخل عنقون، الذي لا تدلّ إليه اي لافتة، استحال أخضر الطبيعة إلى لافتات ورايات وصور لشهداء حركة أمل. صوت «الموستيك» لا يهدأ (الدراجة النارية بلهجة بعض العنقونيين). تزدحم الشوارع بكل شيء: محال ومنازل وتجمعات دينية تلاصق طريق السيارات وأعمدة كهرباء تستوعب رايات «أمل» و«حزب الله» وشعارات قادتها إلى جانب إعلانات لمقاهي النراجيل المنتشرة أينما كان، ولورشة منشرة أخشاب تعلو لافتة لطبيب أو مركز علاج فيزيائي.



في زاوية أخرى، ترتفع لافتة تدل على معمل شوكولا فاخر ثم الحوزة العلمية للفقه والشريعة يديرها الشيخ جهاد فرحات الذي يشرف على تدريس حوالي 70 شابا وفتاة من البلدة ومحيطها. بعدها يقع منزل مختارة عنقون كريمان زيعور. صحيح أن موقعها الحزبي في «أمل»، وانتماءها إلى آل زيعور، هو ما أوصلها في الانتخابات الاختيارية الأخيرة، لكن يبقى لافتاً أنها المختارة الوحيدة بين نظرائها الرجال في المنطقة.
تسجّل في
عنقون نسبة مرتفعة من الزيجات المختلطة طائفياً


في زلزال عام 1956 لجأ أهل كفرحتى إلى عنقون بعدما دمرّت منازلهم


تكفّل العنقونيون بانتشال جثامين شهداء مجزرة حومين عام 1985


تدلي البلدة بدلوها كله في الشارع، كأنها تريد توضيح هويتها أو إيصال رسالة ما. في وسط البلدة، في الطريق إلى الساحة العامة للبلدة القديمة، تنتصب شجرة ضخمة تحول المحيط إلى تقاطع. كأن العمران العشوائي الذي افترس ماضي البلدة الأخضر، جعل من الشجرة العادية، أحد معالم عنقون. يدعونا صاحب محل يجاورها، إلى تصويرها والتركيز على خلفيتها: تجمع شبان أمام «كافيه» نراجيل يتحدثون بصوت عال، ظنناه عراكاً، وصورة على عمود كهرباء، بهتت ألوانها، لشابين ذيلت بـ«من قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً». يخبرنا الشاب بأن أحدهما «مات مدري كيف في مدينة ملاهي في بيروت، والثاني قتل بالرصاص في إشكال وقع أثناء مباراة كرة قدم بين فريق البلدة وفريق عدلون (قضاء الزهراني)».
لا نجد بين زحمة اللافتات والصور، صورة الاستشهادية سناء محيدلي، أو نصباً تذكارياً أو احتفالاً سنوياً ثابتاً يليق بذكرى استشهادها بعملية تبناها الحزب السوري القومي الاجتماعي. عروس الجنوب لا نعثر لها هنا سوى على شاهد قبرها الذي حفر متأخراً 23 عاماً في عام 2008 عندما أفرج العدو الإسرائيلي عن جثمانها في صفقة تبادل مع «حزب الله». كثر حفظوا اسم عنقون بسبب سناء. طوال الـ 23 عاماً، كتبت قصائد تتغنى بشهامة البلدة الزائدة التي ساوت بين رجالها ونسائها. ومن لم يسمع بعنقون سابقاً، سمع بها أثناء تشييع سناء. لم يتوان بعض أبناء البلدة عن افتعال إشكال داخل الحسينية أثناء مراسم التشييع التي كانت منقولة على الفضائيات مباشرة، على خلفية رفع رايات بين عناصر من الحزب القومي من خارج البلدة وشبان من البلدة. التضارب بالأيدي والعصي تطور إلى إطلاق رشقات نارية في الهواء واستخدام السكاكين. والدة سناء اعتلت المنبر مناشدة: «أنا أمها لسناء، ما توجّعوها، كلّكم أخوة، أوقفوا هذا الصخب».

نخوة زائدة

مقر البلدية يقع في آخر البلدة. عند المدخل، ألصقت لافتة على باب قاعة تقول «مكتبة شريكة- وزارة الثقافة، افتتحت عام 2005 بعدما جهزتها الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان، وأمّنت حواسيبها مؤسسة الوليد بن طلال». يطلب منّا الموظفون ألا تنتقد خلوّها من الزوار. «ضعف المطالعة أزمة عامة» يقولون. في الرواق الذي يوصلنا إلى مكتب الرئيس، يمتلئ الجدار على الجانبين بصور تاريخية للبلدة تعود إلى مطلع القرن العشرين، تُظهر بحسب التعليقات المذيّلة، وجهاء ومتمولين ورجال دين وشعراء. وهناك صورة للإمام موسى الصدر يخطب في ساحتها في السبعينيات. رئيس البلدية المهندس حسن حمام يختصر الصيت بالمثل الشعبي المتناقل عن البلدة: «عنقون لما تيّست، عالكل زاد عيارها»، لكنه يستدرك برفض هذا المثل القاسي «الذي يجحف حقيقة البلدة التي بسبب نخوتها الزائدة عند اللزوم اسودّ وجهها أمام الآخرين».
إنها نخوة إذن، لا حب للمشاكل. يستعرض الحاج كريم حيدر (80 عاماً) براهين عدة تثبت أن الصيت مشوّه. يشير إلى أن البلدة التي تعد حوالي 18 الف نسمة، والممتدة على مساحة 53 ألف دونم وتحدها عشرون قرية متنوعة شيعية وسنية ومسيحية، تمثل ملجأ جاراتها وقت الشدائد. في زلزال عام 1956، لجأ أهل كفرحتى إليها بعدما دمرت منازلهم. وفي عام 1985، تكفّل العنقونيون بانتشال جثامين شهداء مجزرة حومين وتكفينهم وتشييعهم. وبين هذا وذاك، يوصفون بسرعتهم وحماستهم لتلبية النداءات الإنسانية لتأمين وحدات دم على مستوى المنطقة ومستشفياتها حتى صيدا. فمن أين انبعث دخان الصيت؟
يقول حيدر إن أبناء البلدة المقيمين في بيروت، عادوا إليها بسبب الحرب الأهلية وأطلقوا عادة «كزدرة» الشباب والصبايا على طريق السكة. وهذا أثار «حركات تلطيش البنات من بعض الشبان من البلدات الأخرى، ما كان يستدعي تدخل شباب البلدة للدفاع عن شرف قريباتهن». علماً بأن هذا الدفاع تطور في إحدى المرات إلى القتل، إذ طارد رجل شابين لطّشا صديقة ابنته حتى أرداهما بسيارتهما. الانتداب الفرنسي والإقطاع سابقاً أثارا حمية الأجداد. ينقل حيدر كيف لجأوا إلى الحيلة لـ«تطفيش» أحد الإقطاعيين من آل الزين كان يريد شراء أراضي البلدة، لأنه كان ظالماً ومتسلطاً. الزين راح يروّج عن عنقون صيت «الطبع الناري وعدم الترحيب بالضيف». الأجواء ذاتها ينقلها أبو جميل فرحات. الثمانيني يعدّ «أحد أعمدة عنقون وصاحب كلمة حق في الإشكالات». يزيد فرحات في أسباب الصيت. يستذكر أحمد زيعور الملقب بـ«الفقش» الذي كان يقطع الطريق على قوافل الفرنسيين ليغنم منها المؤن ويوزعها على الفقراء. في التاريخ الحديث، طرأ عطل على محطة الكهرباء. بادر الأهالي إلى إصلاحه من دون العودة إلى شركة الكهرباء «وإلا لكان انقطاع التيار الكهربائي سيدوم أسابيع». حمية العنقونيين لا تنحصر ببعضهم البعض. يترحم على ابنه الذي استشهد تحت راية «أمل» في منطقة بنت جبيل ضد العدو الإسرائيلي.

في عين المريسة

لرئيس البلدية السابق الطبيب حسين فرحات أسباب إضافية للصيت. يعيد نزعة القوة إلى العنقونيين الذين نزحوا إلى عين المريسة وبرج حمود والنبعة بدءاً من عشرينيات القرن الماضي. كونهم أقلية في محيطهم تعرضوا لأنواع التضييق والتمييز «اضطروا إلى حماية ساحتهم». استعملوا السلاح الأبيض ثم حملوا البنادق مع اختلاطهم في الأحزاب وبدء الحرب الأهلية، لكن ذلك لم يمنعهم من الاندماج حزبياً واجتماعياً في المحيط. يستعرض فرحات عدد الأحزاب التي انخرط فيها قبضايات عنقون. انضووا في رابطة شباب عين المريسة التي أسّسها النائب الحالي محمد قباني في الستينيات والمركز الثقافي العربي ونادي النجاح الرياضي والحركة الناصرية ورواد الإصلاح برئاسة رئيس الحكومة الحالي تمام سلام والجبهة العربية والاتحاد الاشتراكي العربي والمرابطون ثم في أحزاب الحركة الوطنية في السبعينيات.
مختار عين المريسة الحالي إبراهيم رضا من عنقون. أما في برج حمود، فقد أسسوا مؤسسة الشيخ رضا فرحات للأعمال الخيرية، وبنوا مسجداً لا يزال موجوداً. الدراسة التي بدأت في مدارس البلدة أو في مدارس بيروت المختلطة (المقاصد والفرير والثانويات الرسمية) تطوّرت إلى تخصّص في الخارج، وفرت معظمها المنح التعليمية التي وزعتها الأحزاب الوطنية ولا سيما الحزب الشيوعي اللبناني. تعليم أنتج مئات الأطباء والمهندسين والأساتذة والضباط والقضاة، منهم المدعي العام للجنوب الأسبق ميسر شكر، والمدير العام لأمن الدولة الأسبق اللواء نبيه فرحات. اجتماعياً، تسجل في عنقون زيجات مختلطة طائفياً، لا تقتصر على أبنائها الذكور.
«لكن اختلاط العنقونيين مع بيئات أخرى لم يؤثر على طباعهم» يقول الباحث التاريخي سامي فرحات. علماً بأن قسماً منهم هاجر إلى الأرجنتين، وعمل آخرون مع الشركات الإنكليزية في سكك الحديد في عين الحلوة ومنهم من قصد شارع فوش في وسط بيروت حيث عمل في النقل. يجد أن النزعة العائلية أصل البلاء في عنقون، لافتاً إلى أن الكثير منها وفد من خارجها، من روم ومشغرة وغيرها مثل آل عبود وآل زيعور وآل حمام. تكتل تلك العائلات بوجه العائلات المقيمة، استدعى تكتلاً مقابلاً من آل فرحات وغيرهم. وينقل بأن تاريخها القديم لم يكن يخلو من الإشكالات على خلفية نزاع على زعامة البلدة أو على الأرض والمخترة ولاحقاً على رئاسة البلدية في عام 2004. حتى إن كل عائلة كان لها ينبوع ماء خاص بها. قبل البلدية، عززت السياسة الاقتتال العائلي.
في الستينيات انقسمت معظم العائلات بين مؤيد لتيار النهضة برئاسة أحمد الأسعد وآل فرحات، الذين انحازوا لتيار الطلائع الذي قاده رشيد بيضون وعادل عسيران. في الستينيات، هاجم أشخاص من آل فرحات موكب الأسعد بالحجارة خلال زيارته للبلدة، ما أدى إلى مقتل شخص تلقى ضربة حجر في رأسه. يرى فرحات أن نزعة القوة و»القبضنة» مرتبطة بالجينات المتوارثة، إذ كانوا يتنازعون بين بعضهم بعضا ويتّحدون بوجه الخطر الجماعي. وهذا يفسر برأيه، تراجع نسبة الإشكالات في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد عدوان تموز 2006 ومؤخراً خطر التطرف والإرهاب. يلفت إلى أن الشبان، وقود الإشكالات، بات مهتماً بالمشاركة بحماية البلدة في إطار الأمن الذاتي أو الالتحاق بركب المقاتلين مع حزب الله في سوريا.




الرياضة لمحاربة البطالة



اقتنعت فعاليات عنقون بأن البطالة المنتشرة بين شبانها، وبأن قضاءهم فترات طويلة في المقاهي وعلى الطرقات، يمثلان حافزاً رئيسياً لاندلاع الإشكالات. وبهدف استقطابهم واستثمار طاقاتهم، توافقت البلدية ونادي التقدم الرياضي (تأسس عام 1969) على افتتاح الملعب الدولي لكرة القدم الذي سينجز خلال الأشهر المقبلة.
رئيس النادي المحامي ربيع عبود أشار إلى أنه نال موافقة الاتحاد اللبناني لكرة القدم على اعتماد الملعب لاستضافة مباريات فرق الدرجة الرابعة. علماً بأن هواية كرة القدم مشتركة بين معظم شباب البلدة، ومنها تدرج اللاعب علي حمام من فريق عنقون حتى نادي النجمة وصولاً إلى منتخب لبنان، إلى جانب عباس محيدلي الذي يلعب ضمن فريق الغازية في الدرجة الأولى. وأوضح عبود أن الدعوة مفتوحة لمن يرغب باستخدام الملعب للتدرب واللعب.