أول قطرة في غيث هذا الشتاء، كانت قاسية على الهرمل. جرفت. دمّرت واقتلعت أشجاراً وعبّارات زراعية. «لك خربت بيوتنا»، يقولها الرجل الخمسيني وهو يجمع «فروخ» السمك من بستان جاره. سماء الهرمل أغدقت على سفوح السلسلة الغربية العطشى أمطاراً غزيرة تشكّل على أثرها سيل هادر جرف معه صخوراً وحصى، وانقض بشراسة على أراض زراعية مغرقاً منتجاتها وشبكات الريّ فيها، ليجتاح من بعدها أحواض تربية أسماك الترويت، ومطاعم ومقاهي عند مجرى نهر العاصي. لا حول ولا قوة لدى أبناء الهرمل على مواجهة السيل الجارف، عيونهم تسمّرت على مدى أكثر من ساعتين، ترقب تخريب وتدمير أرزاقهم.
«ليش شو فينا نعمل بمواجهة سيل مش شايفين بقوته، إلا منذ عام 1994 حين جرف السيل جسر نهر العاصي» يقول حسين مطر. يتحسّر مربي السمك على خسارة مصدر رزقه الوحيد الذي يعوّل عليه في تأمين معيشته وعائلته، وتسجيل أبنائه في المدارس والمعاهد. يجول الرجل بصعوبة بين أحواض تربية الأسماك التي غمرتها مياه السيل، وجرفت منها «جنى وتعب ستة أشهر». ففي تلك الأحواض يربي مطر «ما يزيد على 200 ألف فرخ من السمك العقيم (سمك لا يبيض وإنما فقط لإنتاج اللحم)، راحوا كلهم بلحظة واحدة. 100 مليون راحوا أمام عيوني ومش طالع بإيدي أعمل شي، إلا أن أحمد الله واشكره وهيدا نصيبنا وأكلناه، وما في إلا الله بيعوض علينا» يقول بغصة واضحة واستياء من الدولة وحديث التعويضات الذي يتكرّر.
سمك الترويت العقيم من الأنواع التي تتطلب تربيتها كلفة تزيد على تربية الأنواع الأخرى، بدءاً من تفقيسها (قرابة الـ3200 دولار أميركي) وصولاً إلى نوعية أعلاف خاصة بكل مرحلة تجتازها، وتصل كلفتها إلى 3000 $ للطن الواحد.
في ذاكرة مربي أسماك الترويت في الهرمل مشاهد الخسائر التي توالت عليهم منذ حرب تموز عام 2006، وتاريخ استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية لجسر العاصي، وأماكن قريبة من مجرى النهر، إذ «فتك البارود بأسماك أحواض التربية في الوقت الذي لم تكن فيه التعويضات عنها على قدر آمال المزارعين، يعني خسارتي كانت 100 ألف دولار، والتعويض اللي طلعلي 11 مليون ليرة» يقول مطر.
الخسائر لم تنته عند هذا الحد، فالأزمة السورية منذ عام 2011 أرخت بثقلها على المزارعين الذين كانوا يعتمدون على نحو رئيسي على طلب السوق السورية التي تستورد ما يراوح بين 60 إلى 70 % من إنتاج مربي الأسماك في الهرمل.
مطالبة للدولة
بتنفيذ خطة لإنشاء مصائد لمياه السيول الجارفة
بعض مربي الأسماك حاول فتح أفق تصدير جديد، كما هو حال المزارع كمال قانصو وشركائه، الذين شرعوا تصدير إنتاج شركتهم «العاصي رويال فوود» من سمك الترويت إلى العراق والإمارات العربية المتحدة وعدد من دول الخليج العربي. السيول الموسمية في أيار وتشرين الأول، باتت «مصدر خطر دائم على أرزاقنا، واليوم أصبحنا أمام مشكلة أكبر تتخطى خسارتنا لحوالي 30 طناً من السمك بأحواض تربية الشركة، وإنما في التزاماتنا والبنود الجزائية مع المستوردين في الدول العربية».
محمد عمر رئيس نقابة مربي الأسماك في الهرمل، ومفوض الإعلام في الاتحاد اللبناني للمؤسسات السياحية في لبنان أوضح لـ«الأخبار» أن خسائر كبيرة لحقت بقطاع تربية الأسماك (150 مزرعة في الهرمل)، الذي يعتاش منه عائلات أصحاب المسامك وشركاؤهم والعمال فيها، «يعني راح المال وراس المال لدى ما يقارب 50% من مربي الأسماك، بالوقت اللي تفاوتت فيه الخسائر بالنسبة للبقية» كما يقول.
لدى الهرمليين جميعاً عتب وسخط عارم على الدولة، التي لم تحرك بعد ساكنا، «سواء لجهة الكشف ومسح الأضرار أو الشروع في تنفيذ خطة مدروسة لإنشاء مصائد لمياه السيول الجارفة في كل من مجرى أودية النيرة والعتيبة والدبور وبنيت في السلسلة الغربية، فضلاً عن مجرى السلسلة الشرقية الذي يطاول الهرمل من عرسال ورأس بعلبك إلى مجرى الفاكهة» بحسب عمر. السخط لدى مربّي الأسماك لا يقتصر على غياب تنفيذ المصائد أو التعويضات فقط، بل يمتد إلى «ممارسات خاطئة واستنسابية في توزيع الأعلاف من قبل وزارة الزراعة»، ويطالب مربو الأسماك في الهرمل بـ«تحقيقات شفافة لجهة التعويضات وتوزيع الأعلاف»، متسائلين «كيف للمعونة العلفية أن تكون كميتها 240 طناً، ولم يصل للهرمل منها سوى 95 طناً، والأنكى أن الكمية الضئيلة وزعت بطريقة عشوائية، وعلى أشخاص ليس لديهم مزارع تربية أسماك، وحتى أن الأمر وصل حد شراء المزارعين أعلاف المعونة من تجار في السوق وبأسعار أقل من السعر الطبيعي لها، ما يؤكد أنهم حصلوا عليها مجاناً وشو بتطلع ربح لهم بكون منيح».
السيل تسبب بأضرار طاولت المطاعم والمقاهي المحاذية لمجرى نهر العاصي وفي المعدات الكهربائية فيها. وإذا كان السيل قد تسبب بخسائر في قطاع تربية اسماك الترويت في الهرمل والمطاعم، فإن صقيع نهاية الشتاء الماضي، سبقه في القضاء على موسم الجوز والزيتون، والأمر نفسه لجهة التعويض «لا تندهي ما في حدا» كما يقول الحاج علي المسمار.
الهرمل القابعة عند حدود الوطن، تخسر مواسمها الزراعية منذ سنوات، ويبدو أن مواجهتها الإرهاب التكفيري، من خلال استهدافها بالصواريخ وبالسيارات المفخخة، لم يشفع لها في جذب نظر الدولة الإنمائي إليها، وخصّها بمشاريع لإقامة مصائد وسدود للسيول، أو حتى الشروع في سد العاصي الذي لا يزال حتى اليوم سداً على ورق.