لا يكاد موسم ينتهي ويطلّ آخر، إلا يكون أحمد عبد الفتاح قد أعدّ نفسه لاستقباله. ينجز زيت الليمون، ويستعد لزيت الخزامى. يجهّز العدة لدبس الرمان وهو يفكّر في خلّ التفاح. هكذا يمضي أيامه متنقلاً بين السطح والحديقة. يروح ويجيء عشرات المرات، يتعب، ولا يتأفف.
مع اقترابه من التقاعد، قرّر أحمد عبد الفتاح أن يستمرّ في ممارسة عمل «مفيد للناس». استعاد مهارات جدّه في صناعة العلاجات الطبيعية، اقتنى الكتب، وأبحر في عالم النباتات. الخواء الذي وصل إليه الواقع السياسي جعله يبتعد، وينخرط في عمل رآه أكثر جدوى، لكن العودة به إلى الماضي لم تكن أمراً صعباً. يكفي أن يتحلّق أولاده حوله، ويسألوه أن يحكي حتى يفعل «منذ سنوات صرت أشعر بأن الكلام لم يعد له جدوى. لا أحكي مع أحد إلا أجابني من خلف متراس».
في بيت العائلة الذي يضمّ 11 فرداً، كان أحمد عبد الفتاح مسؤولاً عن صبّ الشاي. لاحظ أن الإبريق يقفز عن «بابور الكاز» عندما تغلي المياه فيه، فحاول الذهاب أبعد. ربط الابريق على «البابور» وتركه يغلي عساه يطير. وبالفعل، طار الابريق أفقياً وارتطم بالحائط. لم يزعجه الأمر، لأنه اكتشف خطأه سريعاً: «كان يجب أن يكون بخار الشاي نحو الأسفل حتى يطير الابريق صعوداً كما الطائرة التي تمرّ فوق البيت كلّ يوم».
وقف على برميل
في منزل الرئيس فؤاد شهاب مطالبا بإيصال المياه

لم تكن هذه حادثة عابرة في حياة الطفل، الذي سيمضي حياته مستكشفاً ومجرّباً ومحرّضاً متى استطاع. ابن الفلاح، الذي كان يساعد والده على رعي الماعز تعلّم القرآن على يد «الخوجاية» في البلدة. كان عمره سبع سنوات عندما افتتحت أول مدرسة رسمية في مشحا المجاورة عام 1952. تحمّس مع شقيقه «ربما هرباً من رعي الماعز». طلب منهما والده أن يذهبا ويسألا عن قيمة التسجيل، ليتبيّن أنها ثلاث ليرات وربع. «قال أبي: 3 ليرات فهمنا، بس ليه الربع؟». وأصرّ على ألّا يسجلهما إلا إذا ألغوا الربع ليرة. بعد عامين، زار البلدة قريب للعائلة من طرابلس، فروى له أحمد ما حصل. عندها تولى القريب إقناع الوالد بأهمية المدرسة كما دفع رسم التسجيل وثمن الكتب. «وبعدها طرنا مثل الصاروخ».
في الثانوية طرد من المدرسة، التي أقام فيها الجيش اللبناني، لأنه رفض أن يعاقب أحد الضباط تلاميذ المدرسة كلّها بسبب خطأ ارتكبه شخص واحد فقط. لازم المنزل، إلى أن زارهم يوماً سائق كان يعمل لدى مفتي عكار وسأله إن كان يرغب في التعليم لأن مدارس المقاصد كانت تبحث عن أستاذ في بلدة السنديانة. وافق، وتوجه مع السائق إلى بيروت حيث خضع لامتحان تفوق فيه وحمل في طريق عودته قرار تعيينه. لم يكن أحمد يعرف أين تقع السنديانة، توجه إليها سيراً على الأقدام لمدة خمس ساعات. سأل عن المختار الذي صعد إلى سطح المنزل وراح ينادي «يا أهل الضيعة، إجانا الاستاذ». هذا الأستاذ لم يكن قد تجاوز الثمانية عشر عاماً، عندما حفرت في ذاكرته صورة أطفال من السنديانة يأكلون صابونة «بالموليف» كان قد حملها معه، وهم يعتقدون أنها حلوى. قال له أحد الفتية، وهو يعيد له قطعة صغيرة منها «الأولاد لم يأكلوها كلّها، خبّولك هالشقفة».
افتتح أحمد عبد الفتاح المدرسة، وراح يعلّم الأولاد من مستوى الأول إلى الخامس ابتدائي في صف واحد. وفي العام التالي، كرّر التجربة في بلدته حيزوق. وخلال هذين العامين حاز جائزتي المدير الأول في لبنان، والمعلّم الأول، لكن صاحب الشخصية العلمانية كان متضايقاً من درس الدين المفروض في المدرسة، فسأل عن الأوراق المطلوبة لإنشاء مدرسة رسمية «فعلت كلّ ما يلزم، وعندما حصلنا على المدرسة احتللت تجهيزات المقاصد ووفرتها لها». وفيما رُفعت عليه دعوى من المقاصد لأنه ترك عمله من دون إنذار، واحتلّ تجهيزات المدرسة، كان هو قد حصل على قرار تعيينه أستاذا ً في معروب الجنوبية.
قبل مغادرته إلى الجنوب، نجح في إيصال المياه إلى بلدة السنديانة. يتذكر أنه كان استاذاً عندما بدأ العمل على فتح خط مياه إلى القبيات «سألت عن السنديانة، فقالوا إنها ملحوظة ع الخريطة. قررنا نروح عند الرئيس فؤاد شهاب بلا موعد وكان يقيم في صربا. كنت صغيراً فأوقفوني على برميل وألقيت كلمة عن الحرمان وعن الضيعة. يومها قال لي شهاب: يا ابني عندما تعودون، ستجدون جرافة في انتظاركم عند مفرق ضيعتكم، دلّوها لتفتح لكم الطريق. وهذا ما حصل».
على الرغم من الفقر الذي عاشه أحمد في عكار، مثلت الحياة في الجنوب صدمة بالنسبة إليه. لا مجال للمقارنة برأيه «نحن كنا من الفقراء، لكننا كنا ننتج العسل واللوز والجوز وما نشبع بيع». أما في الجنوب «فالملاريا كانت دابحة العالم. لم يكن هناك شحص سليم صحياً تقريباً». فاجأه مثلاً أن «كل التلاميذ كانوا يريدون أن ينزلوا إلى بيروت ويعملوا في التنجيد». وهناك تعرّف إلى السيد موسى الصدر خلال مناسبة عزاء. «سمعتُه يحكي عن أهمية الزراعة والتشجير، وأنها عبادة تدخل إلى الجنة ايضاً. تقدّمت نحوه وحضنته. وهو أحبّ طريقتي في التعبير عن إعجابي وصار يصطحبني معه في جولاته». لا ينساه يوم افتتاح حسينية في تفاحتا «المشهد كان مذهلاً، ولطالما فكّرت في أن بوسع هذا الرجل أن يصبح نبياً لشدة ما كان محبوباً من الناس».
بقي خمس سنوات في الجنوب، تابع دراسته الجامعية خلالها، وأنجز مع صديق له كلّ الإجازات الجامعية التي كانت متوافرة: أدب فرنسي، فلسفة، تاريخ، علم نفس آثار وفنون وأدب عربي. لم يكن يرغب في العودة إلى عكار لولا قصة حصلت معه. عبد الفتاح كان قد انتسب إلى حركة فتح، كما فعل الكثير من الجنوبيين في مرحلة كانت فلسطين فيها «دم العالم». طلب منه في فتح الانتساب إلى «شهود يهوه»، الذين اكتشفوا أمره وحاولوا قتله. فكان القرار بالعودة إلى حيزوق.
بعد عودته إلى عكار، أقام في بلدة مشحا، التي انقطعت عنها الكهرباء لمدة عامين بسبب عطل في المولّد. نسي أولاده ما هو التلفزيون ولم ينجح أحد في إقناع الأهالي بالدفع لشراء مولّد كان ثمنه ثمانية ملايين ليرة. «في أحد الأيام، طلبت من أحد أبناء البلدة القبضايات أن يجمع بطريقته عشرة ملايين. يعطينا ثمن المولّد، ويحتفظ بالمليونين لنفسه. وبالفعل عاد بالمبلغ بعد ساعتين».
في تلك المرحلة، تعرّف أحمد عبد الفتاح إلى منظمة العمل الشيوعي، إذ فوجئ باستشهاد شقيقه محمود، والتقى خلال مراسم العزاء عددا من قادة المنظمة، وتعرف إلى أدبياتها. وتحت شعار «ستبقى القضية الفلسطينية رافعة النهوض العربي»، انتسب إليها. ذكريات كثيرة يرويها عن عمله في هذا الإطار، من تأسيس للمدارس وتعليم وتطوير. كلّها محطات لم تنجح في إيصالهم إلى لبنان الذي حلموا به، فكانت العودة إلى الطبيعة.