في مثل هذه الأيام تنتهي عملية «التموين» المنزلي، لتبدأ معها رحلة الشتاء واستهلاك ما جرى تخزينه. يحرص أبناء الجنوب على هذه العادة، على الرغم من أنهم تخلوا عن الزراعة. وباتوا يفضلون شراء مونة الشتاء من كبار المزارعين أو من المحال التجارية، لأسباب كثيرة بينها كلفة الانتاج الزراعي المرتفعة والنزوح والهجرة. وهذا ما أدى الى اختفاء العادات القروية الجميلة.
كثيرون باتوا يتذكرون، بحسرة «الأيام التي كانت تجتمع فيها الأسرة مع الجيران للتعاون على حصاد القمح ومن ثم تنقيته وسلقه»، ورشة عمل قد تستغرق أكثر من شهر، سيما بعد «الحصيدة». تصل حبوب القمح الى المنزل، لتبدأ عملية تنقية القمح من الأتربة والأوساخ، على طاولة مستديرة، خشبية صغيرة، يجتمع حولها أفراد الأسرة، صغاراً وكباراً، فتكون هذه «الجَمْعة» فرصة للتحدّث عن كل تفاصيل الحياة اليومية ومناقشتها معاً.
لكن أبوعلي ويزاني (خمسون عاماً)، واحد من المزارعين القليلين في قضاء بنت جبيل، الذين يعتمدون في معيشتهم على بيع المنتجات الزراعية ومواد التموين المنزلي. يرى أن «حياة القرية من دون الزراعة لا تساوي شيئاً، فلو أن الجميع لا يزال يعتمد في تموين منزله على جهده الشخصي لكانت الحياة الاقتصادية أكثر وفرة وسعادة».
كثيرة هي المواد التموينية التي يعمد ابو علي مع زوجته وأولاده إلى انتاجها، لكن رحلته السنوية مع زراعة القمح وسلقه وجرشه، هي الأكثر مشقة ومتعة في آن واحد، ولا سيما أن «زراعة القمح تراجعت الى حدودها الدنيا في المنطقة، وبات عدد المزارعين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة». ويرى أن «العَوْنة» في القرية ولّت الى غير رجعة، وباتت عادة تنقية القمح وسلقه من اختصاص عدد قليل من المزارعين، الذين جعلوا من الزراعة مهنتهم الوحيدة، وهم باتوا يؤمنون المونة المنزلية للأهالي. ويذكّر ويزاني بأن «الزراعة هي التي كانت تساهم في تعزيز الالفة والمحبة بين الأهالي»، مشيراً الى أيام سلق القمح، عندما كان أبناء الحي الواحد يتسابقون على حجز دور لهم لاستعارة الخلقينة، أي الوعاء الحديدي الضخم الذي يُسلق القمح فيه.
تُستنفر الأسرة بأكملها قبل يوم من البدء بعملية السلق، فيُجمع الحطب من الحقول، ويُعدّ موقد الحطب، وتُملأ الخلقينة بالماء، وفي الصباح الباكر، يكون الجميع حول الخلقينة لمتابعة عملية السلق، واحد يكسر الحطب، وآخر يشعل النار، وثالث يحرك القمح بشوبك كبير خاص، لمدة أكثر من 6 ساعات. انتهاء عملية السلق، تكون بمثابة الخبر السارّ الذي ينتشر بسرعة عند أبناء الحي الواحد، الذين يحضرون بسرعة لأخذ حصتهم من «القلبة»، وهي القمح المسلوق المغمور بماء القمح المغلي، والممزوج بالسكر. وبعدها تبدأ عملية نقل القمح الى سطح أحد المنازل، يتعاون الجميع على حمل القمح بأوعية بلاستيكية والصعود به الى أعلى السطح، ويُوضع هناك ويتمشّط يومياً بمشط حديدي، لمدة أسبوع، ريثما يصبح جافاً بالكامل، لتجري تعبئته بأكياس، تمهيداً لنقله الى «الجاروشة»، التي تجرش القمح وتحوله الى سميد ناعم أو خشن، بحسب الطلب.
يشير ويزاني الى أن عدد الذين يزرعون ويسلقون القمح في بنت جبيل ومرجعيون لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهم المعنيون اليوم ببيع القمح أو السميد للأهالي، ويرى أن هذه الزراعة باتت مربحة فقط للذين يملكون الجرّارات الزراعية، ويزرعون الأراضي الواسعة، فهو اليوم يزرع نحو 60 دونما وينتج سنوياً أكثر من 250 مداً من القمح، ويعادل سعر المدّ الواحد 35000 ليرة.