فصعون: شوفي شو جبتلك فصعونة: ولك يا ملعوووون حرام عليك رجعها للمي وحاج تعذبها
فصعون: أنا ما عم عذبها. أصلاً لو عم عذبها كانت قالت أو صرخت
فصعونة: ليش كل العالم إلها صوت؟
قد يصح هذا السؤال المؤلم على حال مدينة الرقة، التي جاء منها مجد. لم نعرف عنها إلا القليل الذي عرض في تقرير تم تصويره خلسةً لقناة فرانس 24، وتظهر في آخره طفلة «فصعونة» تتمنى أن تعود إلى رقصة الكابويرا. لكن هذا السؤال عن أصوات الناس، يصح على كثيرين من أهل الأرض. هو كالكثير من الرسائل الواضحة التي ترسلها لوحات «الفصاعين»، ويصفها مجد بأنها «كف على شكل بوسة، لشرح مأساة العالم».
أكثر من مئتي «كف على شكل بوسة»، هي نتاج عمل مجد حتى اليوم، ووجوه متابعيه على فايسبوك تتحملها بشغف كما توحي بعض التعليقات.

■ ■ ■


للوهلة الأولى، يعطي محيط الغرفة التي يسكنها مجد في عمشيت انطباعاً بأنه سبب «الخصوبة» في اللوحات. أشجار متنوعة يمكن رؤية البحر من بين أغصانها. لكن الأمر ليس كذلك. فذاكرة مجد تذخر بالصور منذ «الطفولة الحقيقيّة» التي يقول إنّه عاشها في الرقة «مع أسراب الإوز، وتحديداً في منطقة الطبقة». هناك، حيث تسترخي بحيرة صافية على كتف نهر الفرات. لا تدرّج لونياً يفصل الصحراء عن خصوبة الغابة المحيطة بالبحيرة.
على «الباليت» (الخشبة التي يمزج الرسام عليها ألوانه) تتوزع الألوان الزيتية كتلالٍ صغيرة. تكثر في رسوماته ألوانٌ كالبرتقالي والأزرق والأخضر، لا سيما أن الطاغي في «فصعون وفصعونة» هو اللون البرتقالي. هما «كائنان بسيطان غير خاضعين للمنطق المتعارف عليه» هكذا يعرفهما مجد. إحدى الرسومات تعرفهما بشكل أبلغ. يهطل المطر على فأرة تمسك مظلة خضراء وبرتقالية، فيدور هذا الحوار:
فصعون: لك يا حرام مين عم يعملها على الأستاذة فارة؟
فصعونة: ما حدا هبووووول
فصعون: طيب حدا عم يبكي فوق؟
فصعونة: لك هاد اسمو مطر
فصعون: وليش بس عندو في مطر؟
فصعونة: ما بعرف هيك السما بتعمل
فصعون: طيب ما بيصير هيك لازم تسقي الكل متل بعض
فصعونة: معك حق والله. روح جيب جلدة والحقني
فصعون: ليش؟
فصعونة: أكيد حنفية السما خربانة.

■ ■ ■


هما ليسا كافرين، لكنهما، ليسا مؤمنين نمطيين. «الفصاعين لا يروجون للعنف» يقول مجد. يشير إلى أن الصور العنيفة التي تدخل الذاكرة البصرية تسمح، نتيجة التكرار، بالألفة مع العنف. لا يحتمل هذا الواقع نماذج أخرى عن لوحة «غارنيكا» للرسام الإسباني بابلو بيكاسو (لوحة شهيرة تصور مآسي الحرب الأهلية الإسبانية). هذه اللوحة، أو ما يشبهها تتكرر في معارض مشتركة لرسامين سوريين في المهجر «مشكلتهم أنهم ذابوا في الماضي، وأن الرسم دخل في تجارة الحرب. ماذا نضيف برسم الرأس المقطوع؟»، يتساءل مجد.
يعود بالذاكرة إلى سبع عشرة ساعة من الخوف، هي مدة «هجرته» من الرقة إلى لبنان: «حذفت الماضي عالطريق». ربما حذفه في رسومات «فصعون وفصعونة» وحسب، لأنه في مقطع آخر يسهب في الحديث عن والده المعتقل السياسي لأكثر من عشر سنوات، والذي توفي بعد خمسة أيام من وصوله إلى لبنان، من دون أن يتمكن من زيارته حتى اليوم.
بدأت القصة مع فصعون وفصعونة في لحظة شديدة الإزعاج. السبب؟ «الفنان متضايق دائماً». بلغة أوضح، «لك أن تتصور، فكثيرة هي الأسباب التي يمكنها إزعاج الإنسان السوري». رغم ذلك، تجد في رسومات مجد خطاباً يلامس الإنسان خارج حدود التاريخ والجغرافيا، وأحد أبرز أسباب هذا التوجه، هو إعجاب مجد بشخصية تشارلي تشابلن الذي «لم يكن فقط مشرداً غربياً» يقول، والمشرد، بتعريف مجد، «هو الذي يدير ظهره للناس»؟
الخروج عن التقاليد في مضمون فصعون وفصعونة، ينسحب أيضاً على أدوات الرسم. إذ يرسم مجد بالألوان الزيتية على الورق الأبيض السميك، وهو ما يخالف عرف الرسامين باستخدام الألوان الزيتية فوق القماش أو الخشب حصراً، أما فنياً، فتدمج رسومات فصعون وفصعونة الثنائية الأبعاد، بين الرسوم الميزوبوتامية (رسوم بلاد ما بين النهرين) ورسوم الكوميكس وأيقونات القرن الرابع عشر التي رسمها رهبان كاتالونيا والايتسامب الياباني (قائم على الحفر) في بداية القرن الثامن عشر. النص المرافق ليس تحليلياً ولا تفسيرياً، بل هو القصة. لا يجد تفسيراً لوجود الوردة دائماً في رسومات فصعون وفصعونة، سوى أنها «جميلة وبريئة ليس أكثر». أما غياب اليدين أحياناً أو أعضاء أخرى فهو مرتبط «بالوظيفة في اللوحة». بمعنى أن اليدين إن لم تمثلا حاجة في إيصال الرسالة فلا داعي لهما، طالما «توصل بقية العناصر الرسالة المطلوبة». يظهر فصعون في إحدى الرسومات بلا يدين، أو بيد واحدة كحاله عندما كانت تتنازعه بومة وفأرة، ودار الحديث التالي مع فصعونة والحيوانات.
فصعونة: لك ليش هيك عم تعملو بفصعون؟
البومة والفأرة: أصلا نحن ما دخلنا هو قلنا تعو مطوني بدي صير كبيروون.
فصعون: إي لأنو العالم بيدوسو عالصغار
فصعونة: يا هبووول إذا العالم لازمهم نضارات لروحهم لأنو ما بيشوفو غير القصص الكبيرة.. إنت شو دخلك؟؟
فصعون: طيب بدي صير طويل عريض وأحمل اشيا كبيرة
فصعونة: ليش هي البطيخة (الوردة) اللي حاملا عراسك شو؟
فصعون: بس الوردة خفيفة مش تقيلة
فصعونة: كم مرة بدي فهمك انو الوردة اتقل من الجبل... الجبل ما بتخاف عليه يدبل.

■ ■ ■


في غالب الرسومات، تلعب فصعونة دور الموجّه، أو ناقل الجملة «المغزى» من الصورة. هو تكرار للخروج عن الموروث بحسب مجد «اعتدنا أن الأميرة تنتظر الأمير، وأن مصيرها متوقف على تحركاته. قلبت الصورة مع فصعونة».
يؤكّد مجد أنه رفض الكثير من العروضات لإعداد دفاتر من رسومات الكوميكس، المبنية على شخصيتي فصعون وفصعونة. اشترط أصحاب رأس المال أن يتدخلوا في صوغ النص «وهذا ما رفضته، أكره التوجيه والوعظ»، يقول.
قد يرسم في اليوم خمسة «اسكتشات» لفصاعينه، وقد يرسم واحداً وقد لا يرسم. الأساس كما يقول مجد هو الفكرة التي تلمع، فالرسم البسيط كما تظهر اللوحات، لا يحتاج منه إلا لدقائق معدودة. دقائق كفيلة بتبديد خوفه من ضياع الفكرة، إذ أن رعب الفنان هو المساحة البيضاء.