في موسم الأوسكار يبدأ توالي الأفلام المثيرة للاهتمام الأكاديمي. من هذه العناوين، جديد دايفيد فينشر (1962) Gone Girl (فتاة الرحيل) . الأميركي المحنّك لا يخيّب الآمال، يعود إلى ولعه بـ«تقشير» أميركا، يعمل مبضعه بعمق في الـ«إستابلشمنت» المعقّد، يُلقي شخصياته أمام العدسة، ويبدأ بتعريتها. كالعادة، لدى كل فرد ما يخفيه ضمن تحوّلات صادمة وحقائق مظلمة.
لا تصدّق كل ما تراه. الضحيّة قد لا تكون كذلك. الميديا وحش يزيد الطين بلّة. البراعة في تحقيق ذلك متوقعة من رجل قدّم تحفاً من طراز «سبعة» (1995)، و«نادي القتال» (1999). السواد القابع في أعماق النفس البشريّة حاضر كذلك في «زودياك» (2007)، و«الشبكة الاجتماعيّة» (2010). هنا، يستند فينشر إلى رواية شهيرة بالاسم نفسه لغيليان فلين التي تولّت شخصياً تحويلها إلى سيناريو بنهاية مغايرة. «نيك» (بين أفليك) و«آيمي» (روزاموند بيكي)، زوجان (صحافيان ــ الصورة) يبدوان منسجمين، يضطران إلى ترك نيويورك بسبب الكساد الاقتصادي، والاستقرار في ميزوري. في عيد زواجهما الخامس، يعود «نيك» إلى البيت ليجده خاوياً. «آيمي» تبخّرت تماماً. الافتراض المباشر أنّ الرجل ضالع في قتل زوجته. أمور عديدة تعزّز ذلك، مذكّرات «آيمي» مع مشاهد الفلاش باك، معاينات الطب الشرعي، تفاصيل تشي بأنّ الزواج لم يكن مثالياً، أساس التقارب بين الثنائي كان هشّاً، الإنجذاب الجنسي لا يمكن أن يصمد طويلاً، رفض أحدهما الإنجاب. «آيمي» كاتبة قصص أطفال ناجحة بكاراكتير «آيمي المدهشة»، بينما «نيك» مجرّد شريك لأخته في حانة. خواء يتفنّن فينشر في الحفر داخله.
الأنكى من كل ذلك، وقاحة وسائل الإعلام ورغبتها في الافتراس وكيل الاتهامات. الرأي العام القطيعي صار جاهزاً لدفن الزوج حياً. «نيك» يرزح الآن تحت ضغط هائل من الضوء والظنون. تفاصيل كثيرة تُحيل على قضيّة سكوت بيترسون التي شغلت الرأي العام الأميركي منذ اختفاء زوجته «لاسي» عام 2002. فرق شاسع بين ما تظهره وسائل الإعلام وبين الحقيقة، كما في زواج «نيك» و«آيمي». هذه مقارنة وحشيّة في فيلم يجيد حرق الأعصاب وتشريح ثقافة الـ TMZ.
فينشر أحد البارعين القلائل في النقد اللاذع وطرح الأسئلة الصعبة وعمل المقارنات المستفزة، مع القدرة على النجاة بذلك في هوليوود. في سينماه، الفرد ملعون بأطنان من السواد والمكائد والعسف النفسي. المجتمع المنخور شاهد على نفسه، وشريك في كل هذا التيه. فينشر مهووس بالكمال وحياكة أفلامه بصبر. هذا يؤتي أكله بوضوح في أداء بين أفليك الذي لم يتوهّج هكذا منذ «هوليوودلاند»لألن كولتر(2006). يسلّم نفسه بالكامل لإدارة فينشر، حتى أنّه أجّل مشروعه الإخراجي الجديد Live by Night. تايلر بيري مفاجأة سارّة في دور المحامي. روزاموند بيكي حكاية أخرى. كثيرون لا يذكرونها جيداً، إلا أنّها هنا تقدّم إنجازاً سينقلها إلى جوار الكبار. قدرتها الهائلة على التطويع العقلي والجسدي (خسرت وكسبت وزناً ستّ مرات خلال التصوير) لافتة بالفعل. صوتها يتغلغل في كيان المشاهد كما فعل إدوارد نورتون في «نادي القتال». في الأفلمة، ثمّة أناقة أوروبية وخلفية هيتشكوكية. سينماتوغرافيا جيف كرونينويث، رفيق فينشر القديم، تخدم سودواية المناخ وبرودته، خصوصاً في توزيع الضوء والظل. بعض الأقلام النقديّة في أوروبا رأت أنّ الشريط يرسّخ نمطية جندريّة مختلفة. هنا، يبدو الرجل «معنّفاً»، والمرأة تبادر بالعنف النفسي والتضييق على الجنس الآخر. ليس بسبب هوس عاطفي إنّما هناك نرجسيّة وشخصيّة سايكوباثية في الخلفية. الإجرام المرضي لم يعد حكراً على الرجل. هكذا، يُعدّ الفيلم مناصراً للمرأة وكارهاً لها معاً. لكن كل ما في الأمر أنّ الاشتغال على الطرح المختلف حق طبيعي لأيّ كاتب/ مخرج، وأحد أسرار السينما الجيّدة.
Gone Girl فيلم كبير، يثبت مجدداً أنّ دايفيد فينشر مخرج ذو عالم خاص رغم احترامه الواضح لإرث الكبار.

صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/995195)