يتجاوز عدد الذبائح المعلّقة في واجهة الملحمة العشر، أما الساعة فلم تتجاوز الثانية عشرة ظهراً بعد. على الرغم من ذلك، يعتذر الشاب الذي يلبي طلبات الزبائن عن عدم بيع «السَوْدة». يؤكد للرجل الذي يكرّر الطلب أكثر من مرة: «عن جد خُلصِتْ، ما بقا في». يصرّ الرجل: «احكِ مع الحاج وقل له إني فلان». يعتذر الشاب مجدداً.يروح الرجل ويجيء، يحكي مع عاملة الصندوق، ثم مع عامل آخر، تجري الاتصالات ليفرج الشاب بعدها عن نصف كيلو من اللآلئ السوداء اللامعة. يمرّرها «من تحت الطاولة» وهو يبرّر ضاحكاً: «كنت أنفّذ الأوامر، لم أعرف أنه حجزها لك».

يبدو الموقف غريباً، في منطقة تعجّ بالملاحم، كما يعجّ المحل نفسه بعشرات الذبائح. كيف لزبون أن يستجدي نصف كيلو من «السودة» وسط هذا الكمّ من اللحوم؟
لا يُضحك السؤال أحداً، فهو يكشف جهل طارحه بأدبيات التعاطي مع هذا المنتج الغذائي الذي لا يعلو عليه شيء برأي الذوّاقة.
«بحسّ قلبو قشط الواحد إذا ما أكل لحم» يقول أحدهم ضاحكاً. ويضيف آخر «لا يمكنك أن تملي من تناول اللحم لأنه يؤكل على كل الأوجه، متل البطاط». في المقابل «السمك محدود». أما الدجاج؟ فلا داعي إلى السؤال عنه. لا أحد هنا مستعدّ للحديث عن هذا النوع من اللحم الذي «لا طعم له».
أهلاً بكم عند مثلث سينيق. رائحة الشواء تطغى على ما عداها. كانت قد انبعثت بخجل عند جسر الأوّلي مستقبلة زائر الجنوب، كما تودّع بخجل مماثل زائر صيدا عند «الحِسْبة». أما هنا، عند المثلث المعروف أيضاً بمفرق مغدوشة، فلا مجال للتردّد. هنا تتوزّع «ملاحم النابلسي الشهيرة»، بأسمائها المختلفة، إلى حدّ يجعلها محطة إلزامية لمعظم المارّة في المكان، فضلاً عن الذين يقصدونها على نحو خاص، لكن فيما يصرّ روّاد كلّ من هذه الملاحم على أنّ الملحمة التي يقصدونها هم هي «الأصلية»، ينسى الكثيرون أن النابلسي «الأصلي» انطلق من العاقبية، مدينة اللحم، كما أطلق عليها مطلع ستينيات القرن الماضي. ولا يعرف كثيرون، أن البداية كانت في البيسارية، إحدى قرى قضاء صيدا ـ الزهراني.

كما في بقية القرى، كان اللحام يعمد في الماضي القريب إلى الذبح مرة في الأسبوع أو مرتين. مهنة بالكاد تسدّ مصاريف العائلة، ولا تغني عن العمل في الزراعة. هذا ما كانت الحال عليه في البيسارية لوقت طويل، قبل أن يلتفت أبناؤها إلى موقعها الجغرافي. فهي تقع على مقربة من شاطئ خيزران في الصرفند، الذي كان يشهد منذ الستينيات نشاطاً سياحياً ملحوظاً ويعجّ بالمتنزهات والمطاعم والفنادق، فتقصده العائلات خلال العطل للنزهة. يروي حسن النابلسي، الذي كان يذبح في بلدته كلّ أحد، أنه فكر مع شقيقه في ضرورة الاستفادة من الازدحام الذي تشهده خيزران في عطلة نهاية الاسبوع. فكانا أوّل من شيّد ملحمة في بلدة العاقبية، لا تزال قائمة إلى اليوم عند المفرق المؤدي إلى البيسارية.
بدأ الأمر بالذبح أسبوعياً منتصف الستينيات، ثم توسّع إلى الذبح اليومي مع ازدياد الطلب عليه. فتعدّدت الملاحم التي تعود للإخوة وأولاد العم من عائلة النابلسي، على طول خط سير العاقبية باتجاه الجنوب. وذاع صيت «لحمة العاقبية» حتى بات يقصدها لبنانيون من مختلف المناطق حتى اندلاع الحرب اللبنانية في منتصف السبعينيات. في هذه المرحلة، تضاءل عدد الزبائن الآتين من خارج الجنوب، كما برز تحوّل آخر مع وصول رجلين هما العبد مروة ومالك النحّال إلى منطقة سينيق. مروة كان قد نزح من منطقة برج حمود حيث كان يعمل فراناً. فيما نزح صديقه مالك النحّال من منطقة النبعة، حيث كان يعمل لحاماً.
تعدّ ملحمة
جبل عامل الأقدم عند مثلث سينيق الشهير


تحوّل اسم
النابلسي إلى ماركة مسجلة انطلقت من العاقبية

اتفق الرجلان على تأسيس ملحمة وفرن عند المفرق الذي يؤدي إلى مغدوشة، المعروف اليوم بمثلث سينيق، كما يروي حمزة مروة. فكانت «ملحمة جبل عامل» أوّل ملحمة تشيّد في المكان عام 1977. ويقال إن الشيخ راغب حرب، صديق مالك النحّال، هو من اقترح هذه التسمية. وقد استشهد النحّال عام 1985 على يد عملاء «اسرائيل»، بعد وقت قصير على استشهاد الشيخ راغب حرب.
مع الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، ضعفت خيزران سياحياً، حتى إن عدداً من أصحاب الفنادق والمطاعم أقفلوها، أو أعلنوا إفلاسهم بسبب عدم القدرة على الاستمرار في العمل. في المقابل، كان أبناء النابلسي وأولاد العمّ ينتشرون شمالاً، وصولاً إلى المثلث الشهير، ويطوّرون في عملهم من خلال افتتاح الصالات وتطوير الخدمات التي يقدّمونها. هذا الانتشار، هو الذي جعل من اسم «النابلسي» ماركة مسجلة يحاول البعض استخدامها للترويج لنفسه كما حصل مرة.
باكراً يمكن لقاء حسن النابلسي في منزله في البيسارية. الرجل السبعيني لم يعد يمكث طويلاً في ملحمته في العاقبية. قد يكون الوحيد من بين أصحاب الملاحم الذي لا يزال يقيم في البيت نفسه، فيما ترتفع قصور رفاقه في المهنة على مساحات واسعة من الأراضي. لماذا؟ «نحن معش معوّقين (متأخرين) بهالدنيا» يقول مع ابتسامة، ويضيف سريعاً «المهم الآن هو أن يؤمن أولادي أنفسهم».
المهنة التي ورثها مع شقيقيه عن والدهم، ورثها أيضاً أولاده، إذ يدير أحدهم ملحمة في العاقبية، وآخر في البابلية. أما أولاد إخوته، فهم من يدير الملاحم في مغدوشة والأوّلي، كما يديرون المسلخ، فيما يعمل اثنان منهم في تجارة المواشي عبر البواخر.
ومن هو الأصلي خارج العاقبية؟ نسأله، فيجيب «اللي ع مفرق مغدوشة، لكن الكلّ مناح ومقصودين». أما العاقبية، فراح عزّها، بعدما «خفّت الرِجْل عليها وتحوّلت إلى منطقة شعبية». يقدّم مثلاً «نحن نكتفي بثلاث أو أربع طاولات، أما في مغدوشة، فيصل العدد إلى أربعين أو خمسين طاولة».
عندما نسأله عن سرّ المهنة، يجيب بسرعة «أن تشتري لحمة منيحة، إذا لم يكن العجل بصحة جيدة لا أشتريه». المشكلة التي بات يواجهها اليوم هي عدم وجود عجول بلدية كما في السابق «اما الغنم فكثير». على الرغم من ذلك هي الأغلى ثمناً «لأنها أطيب».
يستخدم النابلسي كلمة «ازدهار» أكثر من مرة، للإشارة إلى تطوّر هذه «المصلحة»، لكن عندما نسأله عن مردودها، يلاحظ أن الإنتاج خفّ عن السابق: «اللي عمل مصاري عمل قبل، كنا نربح بالآلاف صرنا نربح بالمئات». والسبب «ارتفعت أسعار الطرش (الماشية)، ولم تعد موجودة كما في السابق في كلّ بيت». يشرح أكثر «السعر اليوم صار ع الكيلو قبل كنا نجيب شلفات بسعر مغر». لا يوافق على القول إن اللحم المستورد من البرازيل هو سبب الأرباح «فهذه أيضاً تباع بالكيلو، والنقليات غالية بدورها»، إضافة إلى ان «اللحم البلدي مقصود ويخلو من الأمراض».





اللحام يغشّ زوجته!

ما الذي يميّز مهنة اللحام برأي حسن النابلسي؟ «معاشرة الناس والاجتماعيات التي يقيمها». ومع من يفضّل أن يعمل اكثر، النساء أم الرجال «نحتك بالجنسين بالطريقة نفسها، لا فرق. التعامل صعب مع الغشيم (الأحمق) رجلاً كان أو امرأة». و«الغشيم» هو «الذي لا يعرف بهالشغلة». لكن ما الذي يجب أن يعرفه المواطن عن اللحم؟ يضحك. «كأن يأتي شخص ويقول لي: بدي لحمة منيحة. من يفهم بالموضوع يعرف أن اللحمة لها أسماء: فتيلة، كستلاتة، دقن اللحام، وج الفخذ، موزات...

ما في لحمة منيحة وبس». يقدّم مثلاً «هل تذهبين إلى محل الخضار وتقولين له أريد فاكهة، أم تقولين أريد ليمونا؟ عنباً؟ تفاحاً؟». يبقى الصيت الذي يشتهر به اللحام وهو الغش. «هذا صيت ظالم. يقولون إن اللحام يغشّ زوجته لأنه يأتي ببقايا اللحم إلى البيت. أنا أفسّر لك. هل يبيع المزارع حبة البندورة المتضرّرة ام يتركها جانباً ويأتي بها إلى البيت؟ هذا ما نفعله نحن ايضاً».
الغش، إذا وجد فهو «عندما يخلط اللحم المجلد أو اللحم البرازيلي باللحم البلدي، لا إذا وضع فيها كمية أكبر من الدهن كما يعتقد الكثيرون».