اليانا بدر
سوريا. الممر الحدودي المثقل برائحته ورشواته، النظام الذي لطالما اعتبر لبنان خاصرته الرخوة، الجيش الذي حجز لنفسه حيزاً واسعاً في ذاكرة حروبنا. الاستخبارات التي حفظنا عنها القاعدة التالية: كل فرد سوريّ من أصل 4 هو رجل استخبارات. سجن المزة الذي كانت جداتنا تهددنا بأخذنا إليه. «البرازق»، الحلوى الطيبة، علامة توصم بها كل زيارة إلى هناك، وآل الأسد: الأب والابنان. وإذا ما غابت سوريا جغرافياً، حضر رجالاتها في لبنان: رستم غزالي، غازي كنعان، جامع جامع. هكذا وصلتنا سوريا. والأصح، هكذا أوصلوها إلى «مجتمع مسيحي» حفظ عنها ضحايا ومعتقلين وذاكرة من الحقد. كثير من الحقد.

سوريا 2011. فتحنا الشاشات. رأينا شعباً ينسلخ عن نظامه، فأخرجناه نحن المتفرجين من عباءته البعثية لنعيد صناعة الصورة: في سوريا ثورة. في سوريا شعب صاحب حق، يقول «لا» لنظام حاربه «المجتمع المسيحي» لسنوات. شعب يُعتقل في سجون نظامه مثلما اعتُقل اللبنانيون. يعاني ظلماً عرّف عن نفسه سابقاً وفي أكثر من مناسبة تاريخية. وجدنا هناك من يشاركنا هنا ماضٍ لم نُشفَ منه بعد.
ثمة فئة من المسيحيين ترى نفسها اليوم في قضية واحدة مع السوريين الذين أرادوا التغيير


لم نكن يوماً شعباً واحداً، بعيداً من الكلام الإعلامي ــ التجاري. نحن في بلدين. نحن جيل ما بعد الحرب، وصلتنا صورة السوري مشوّهة، هذا عدا عن شوفينيتنا وعنصريتنا التي تشوّه صوراً كثيرة أخرى. عرفنا «السوري» عامل بناء نمارس فوقيتنا عليه، أو جندياً نشعر بالخوف منه ونكرهه. أحببنا علي الديك للدبكة، والكباب الحلبي لبطوننا. لكننا كرهنا «السوري» الذي يبني منازل لا يسكن فيها، ويدخل بلاداً من دون أن يدفع بدلاً لإقامته. حمّلنا العامل مسؤولية ممارسات جيشه وحقدنا على الجندي لأنه نفّذ الأوامر. و«الحق» الذي تمسّكنا به يقول إن «السوري» قتل بشير الجميل، وسجن سمير جعجع، ونفى ميشال عون. و«السوري» صنع حروباً وشارك في أخرى، همّش الدور المسيحي، عدّل قوانين الانتخابات، حرّك دُماهُ اللبنانية، أضعف رئيس جمهوريتنا المسيحي، صنع من وزارة الدفاع في لبنان مركز اعتقال للشباب المسيحي. كنا نقول كل هذا وكان ذلك كل ما نقوله.
اختلفت الصورة. لا لأننا شفينا من عنصريتنا، أو فرحنا بالخرابِ العميمِ، أو تنصّلنا من الاعتراف بما حملهُ سيلُ الانتفاضةِ معهُ من كوارث. نعي ذلكَ جيّداً: سوريا اليوم خراب لم يترك خيراً إلا وابتلعه. طوائف ولاجئون ووجه إسلامي يبث الرعب. لكن سوريا أيضاً، أطفال وأصحاب حق وشعب تغيّرت نظرتنا إليه. في «المجتمع المسيحي» اليوم، ثمة من يحترم السوريين. هكذا بكل بساطة وحقيقية. أيقظت الأحداث فينا شعوراً مختلفاً، كرجل قلب الطاولة. صارَ «السوري» مناضلاً وصاحب قضية بالنسبة لكثيرين منّا. وقد رأينا مئات الآلاف من الضحايا والمعتقلين واللاجئين. رقم مخيف رافقه كم هائل من الأخطاء والتجاوزات في انتفاضة السوريين. في الحسابات الإنسانية لا يكلف التغيير كل هذه الخسائر، والمواقف لا ينبغي أن تكون متباينة، لكن «الحق» مسألة ما يناسب وما لا يناسب.
بعد كل شيء، علينا الاعتراف: ثمة فئة من المسيحيين تخاف على وجودها الأقلوي، وأخرى تخاف من تجربة فلسطينية أخرى. «محمودات كلهم»، كما في «فيلم أميركي طويل». لا تريد لاجئين قد يتحولوا إلى «غريب» يتوجّبُ عليهم محاربته لاحقاً. وثمة فئة ترى نفسها في قضية واحدة مع السوريين الذين أرادوا التغيير. رغم اختلاف المواقف المسيحية تجاه ما يحصل في سوريا، ورغم الشوفينية العقيمة لدى الكثيرين، صورة السوري اختلفت في أوساط «المجتمع المسيحي». يوجد اختراق وإن كان البعض لا يحبّ أن يراه. ها نحن ننظر إليه بعين واسعةٍ شجاعة، هل لأننا ما زلنا نرتابه؟! ربما. وربما لأن سوريا منذ عقود تكتم صوتاً تأخرنا كثيراً في سماعه.