لا تختلف قصة أبناء القرى الجنوبية مع الاغتراب عن غيرهم من اللبنانيين. منذ مطلع القرن الماضي، اختاروا الهجرة هرباً من الفقر ومن الاحتلال، توزّعوا في مختلف القارات. ومع الطفرة النفطية، شكّلت دول الخليج العربي قبلة للكثيرين منهم، فشكّلوا يداً عاملة أساسية في إعمارها وفي تعليمها، كما يروي المغتربون الأوائل.
الدول التي قصدوها، وكانت صحارى، باتت اليوم دولاً متطورة ومتقدّمة. الصور التي علقت في ذاكرتهم صارت جزءاً من التاريخ الذي لعبوا دوراً فيه. ما لم يكن يشكل جزءاً من رواياتهم، هو الطريق البرية التي كانوا يسلكونها للسفر من وإلى لبنان. أما اليوم أقفلت هذه الطرقات وصارت رحلاتهم البرية جزءاً من الذاكرة التي بدأوا بنبشها بما أن «تاريخ شهر العسل بين أبناء الدم الواحد قد ولّى بانتشار التطرّف الديني الذي بلغ حدّه الأقصى».
قبل ثلاث سنوات، عندما كانت طريق السفر البرّية مفتوحة أمام المغتربين الجنوبيين في الدول العربية، كانت رحلات هؤلاء، ذهاباً واياباً، تشكل جزءاً من طريقة عيشهم. من جهة، توفّر لهم فرصة لزيارة أهلهم وقراهم بكلفة زهيدة، ومن جهة ثانية تعرّفهم إلى البلاد التي يعبرون فيها.
تاريخ هذه الرحلات قديم، ومنها ما كان يبدأ بالجارة الأقرب، أي فلسطين. يذكر أبو كامل الزين (85 سنة)، أنه سافر إليها عام 1943 مع رفاقه، «وكنا أطفالاً تتراوح أعمرانا بين 12 و13 سنة». كانت الطريق إليها برّاً، «من بنت جبيل مروراً بكفر برعم (مستعمرة الآن) ثم حيفا، تتمّ بواسطة باص صغير أجرته شلن واحد». أقام ابن بلدة شقرا في «وادي الصليب»، حيث عمل حمّالاً مع رفاقه «كنا نحمل سلال قشّ، فتضع النسوة الخضار فيها لنوصلها إلى منازلهن، بقرش واحد أو خمسة قروش على الأكثر». بعدها عمل أبو كامل في بيع الدجاج إلى اليهود «كانوا يذبحون الدجاج على طريقتهم، نقوم نحن بتنظيفها ثم بيعها، وفي المساء نعود إلى اللعب». ولأن المردود كان ضئيلاً «قرّرنا العمل في تنظيف العلف عند اليهود العرب، الذين استبدلونا بأيتام اليهود الأجانب الآتين من ألمانيا، بعدما أجبرونا على تعليمهم فنون العمل والانتاج».
الخطر الوحيد الذي كان يخيف المغتربين هو حوادث السير


بعد نكبة فلسطين، عاد الزين ورفاقه إلى شقرا للعمل في فلاحة الأرض، قبل أن يقرّر الهجرة مجدداً، وكانت الوجهة هي الكويت هذه المرة. سهّل مكتب سفريات علاء الدين، الكائن في منطقة العازارية في بيروت يومها، الأمر بكلفة 50 ليرة لبنانية. وعلى متن «القطار السريع»، عبر الزين طريق ضهر البيدر إلى سوريا، فالعراق «استغرقت الرحلة حوالى 15 ساعة متواصلة. ومن العراق، استقليت سيارة أجرة في منطقة البصرة الى الكويت». وهناك، عمل الزين مع أبناء بلدته في تجارة الألبسة «كنا نحمل الثياب على الكتف ونبيعها للكويتيين، لا سيما النساء اللواتي كنّ ينفقن كثيراً بعد الثورة النفطية».
ومنذ ذلك التاريخ، باتت العودة الى لبنان صيف كل عام مؤمنة برّاً بواسطة باصات كبيرة تتسّع لأكثر من أربعين راكباً. ويذكر مختار شقرا عدنان الأمين، أن أحد أبناء البلدة ويدعى أبو ناصيف الخطيب، كان يستخدم بوسطة لنقل المسافرين من وإلى فلسطين، قبل أن يهاجر الى الكويت ليكون أول من هاجر اليها من أبناء بلدته.
إلى الباصات، كان عدد من المغتربين يعود إلى لبنان بسيارته الخاصة والفخمة، التي تشكّل مادة لأحاديث لا تنتهي. وفي هذا الإطار، يتذكر محمد عواضة، ابن بلدة مركبا الذي يقيم منذ أربعين سنة مع عائلته في الإمارات، كيف كان أطفاله «ينتظرون فصل الصيف للعودة إلى لبنان. يجمعون أمتعتهم الخاصة قبل أيام من السفر، ويضعونها في سيارتنا الجميلة الأميركية الصنع (شيفروليه)، التي تقلّنا في رحلة طويلة، أشبه بنزهة، نتوقف خلالها في محطات متعددة، نكون قد اتفقنا عليها مسبقاً». كانت سيارته تعبر وحيدة، بسبب قلة عدد السيارات حينها، تحت أشعة الشمس الحارقة، على طول الصحراء السعودية «التي نتوقف في محطاتها المختلفة، وهي عبارة عن محطات للوقود نشتري منها المياه وبعض السكاكر، ثم نعود للسير على أصوات الموسيقى العالية». لا يخلو الأمر من مشاهد مخيفة، «كانت تبشّرنا بها إطارات السيارات المبعثرة بسبب احتراقها من حرارة الشمس، أو سيارات معطلة ينتظر أصحابها مرور دوريات الأمن للمساعدة». يبقى المشهد على حاله، إلى حين الوصول إلى عمّان وإربد، «التي كنا نجول في أسواقها الشعبية ومواقعها الأثرية التي حفظناها غيباً، قبل أن نصل الى دمشق فنزور مقام السيدة زينب قبل أن نصل إلى لبنان». وتعدّ لحظات الوصول هي الأجمل «كان أولاد القرية، في سبعينيات القرن الماضي، يتحلّقون حول سيارتنا الجميلة فنشعر بالفخر لأننا نملك سيارة لا يملكها أحد غيرنا». لافتاً إلى أنه «لطالما كانت أسعار السيارات في الخليج زهيدة نسبة الى أسعارها في لبنان، وكان ذلك يساعدنا في استغلال سيارتنا في التنقل داخل لبنان من دون الحاجة الى دفع مبالغ مالية لشراء السيارات أو استئجارها». وهذا ما يؤكده المغترب جواد خلف (75 سنة)، ابن بلدة شقرا بقوله: «بطبيعة الحال، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بات معظم المغتربين في دول الخليج يملكون السيارات الفخمة نظراً إلى الحاجة الماسة اليها ولتدني سعرها. فالمغتربون يتكبدون أموالاً كثيرة لو قرروا السفر جوّاً مع عائلاتهم، أما كلفة الانتقال بالسيارة تكاد لا تذكر، نظراً إلى تدني سعر البنزين في الخليج، وقرب المسافة، اذ يستطيع المغترب الانتقال بسيارته صباحاً من الكويت والوصول ليلاً بعد ثماني عشرة ساعة، الى بلدته الجنوبية، فالمسافة تقارب 1440 كلم». ويتذكر الأمين أن «أوّل سيارة جديدة الطراز دخلت البلدة عام 1971، وكانت من نوع شيفروليه للمرحوم ابراهيم خلف. سحرت كل من شاهدها خصوصاً أن صاحبها استأجر سائقاً لقيادتها».
منذ ذلك الوقت، وحتى ثلاث سنوات خلت، لم يكن المغتربون يواجهون أية مشكلة تذكر في عبور الحدود العربية. «لم يكن للطائفية أي اعتبار» يقول خلف بغصّة، لافتاً إلى أن «رجال الأمن كانوا يساعدوننا وينجزون معاملات الانتقال بسرعة، بخلاف الواقع اليوم». ويتذكر أن «أحد أبناء العراق سار أمامنا بسيارته أكثر من مئتي كلم لإرشادنا على الطريق الصحيحة، حتى أن بعض المغتربين كانوا ينامون ليلاً في سياراتهم من دون أي خوف». متسائلاً: «ماذا حلّ بهؤلاء اليوم؟ وماذا حلّ برجال الأمن السعوديين والأردنيين الذين اشتهروا بالشهامة رغم الدقة في تفتيش أغراض المسافرين. نعم، كانوا يفتشون كل الحقائب، يفرغونها لكنهم يحملونها وحدهم وبهدوء من دون أي ازعاج!». الخطر الوحيد الذي كان يخيف المسافرين براً هو «حوادث السير القاتلة، خصوصاً تلك التي كانت تحدث على طريق الصحراء السعودية، عندما كانت تعبر الجمال فجأة في عرض الاتوتسترادات العريضة، وهذا ما أدى مراراً إلى سقوط القتلى من المغتربين، لذلك لجأت السلطات السعودية الى وضع الشباك الحديدية على طول الاوتستراد البرّي». ويقول أبو كامل الزين إن «شقيقه وافته المنية بعد حادث سير أثناء سفره في سيارة يقودها أحد أبناء البلدة، إضافة الى وفاة شابين آخرين من البلدة في حادث مشابه نتيجة تعب السفر الطويل». توقف الرحلات البرية ساهم بطبيعة الحال في تدني عدد المغتربين العائدين هذا الصيف إلى لبنان مقارنة بالسنوات السابقة. «كانت شوارع بلدات شقرا وحولا وجويا وغيرها تزدحم بسيارات المغتربين الذين ينعشون الحركة الاقتصادية، فتمتلئ الأفران والمحال التجارية والمطاعم الصغيرة بحضورهم» يقول حسن الزين، موضحاً أن «الأوضاع الاقتصادية السيئة في بلاد الاغتراب، لا تسمح اليوم بزيارة المغتربين جواً، إضافة إلى انه تزامن مع حلول شهر رمضان، شهر العمل والتجارة في دول الخليج».
هذا عدا عن غلاء المعيشة في لبنان، إذ يقارن خلف بين لبنان والكويت قائلاً: «وجبات الطعام في الكويت شبه مجانية، تستطيع الأسرة الفقيرة أن تأكل بدينارين يومياً، بينما تحتاج في لبنان إلى عشرة دنانير، إضافة الى اضطرارهم لشراء المياه ودفع اشتراكات الكهرباء واستئجار السيارات، بمعنى أنهم سينفقون كل ما ادخروه من أموال خلال الصيف ما يجعل الشخص يفكر أكثر من مرة قبل أن يقرّر تمضية الصيف في لبنان».



هدايا وسيارات

لسنوات طويلة، كان المغتربون يُعرفون من سياراتهم ومن الهدايا التي يحملونها معهم. ففي عام 1954 اشتهر المهاجرون إلى الكويت بإحضار أقلام الـparker وولاعات من ماركة رونسون وساعات اليد الذهبية. في حين كانت هدايا المهاجرين إلى السنغال عبارة عن ملابس أفريقية وسكاكين سون ويت (108) العاجية. أما لوحات السيارات فكانت تفصح عن هوية أصحابها بين أبناء القرى الجنوبية. فالسيارات الكويتية تعني أن أصحابها من أبناء بلدة شقرا، في حين تدلّ السيارات ذات اللوحة السعودية إلى أبناء بلدة الطيبة.



الهجرة بحراً

يعود تاريخ الجنوبيين مع الاغتراب إلى الحرب العالمية الأولى، كما يقول مختار شقرا عدنان الأمين. لم تكن الوجهة دول الخليج العربي، بل خاض الجنوبين البحر، وتوجهوا إلى أميركا والأرجنتين أيام المجاعة والهواء الأصفر عام 1914. يذكر منهم «حيدر عاشور الذي عاد من الأرجنتين عام 1955، ومحمد محمود خلف الذي عاد مع ابنته الأرجنتينية عام 1974». كما يشير إلى أن عدداً من أبناء المنطقة «هاجر إلى السنغال، وكان أول من هاجر اليها المرحوم عبدلله سليمان عام 1926، وبات لأبناء شقرا وزيراً للبيئة فيها. أما الهجرة الى البرازيل فقد بدأت عام 1952 على يد محمد رضا الأمين وأشخاص من آل طاهر والعلي وفوعاني».