«ذات مومنت» عندما «تفتح» شاشة قناة المنار وتجد وسيم بزي يتحدث عن آفاق المرحلة بعد الانتخابات الرئاسية في سوريا مثلاًً، بماذا يمكن أن تفكر؟ أو عندما ترى الياس حنا، المقدم المتقاعد من الشرطة العسكرية، يحلل تكتيكات الحرب في العراق على قناة الميادين؟ أو ماجد ماجد على قناة الجديد يحلل في كل شيء؟ بماذا يمكن أن تفكر في تلك اللحظة المزدحمة بالتحليلات؟ لا أعرف ما قد يتبادر إلى ذهن من تداهمهم تلك الصور في آن واحد، ولكن الأكيد أنه يتبادر إلى ذهني صورة ليلى عبد اللطيف. فهؤلاء يشبهونها عندما يتوقعون غدنا على سجيتهم... وإن كان الفارق بين الاثنين حاسة سادسة.
من دون هذا الفارق، هم منجّمون برتبة عادية. بلا حدس. أو كما شاء عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو وصفهم: هم مفكرون «على السريع» يعملون تحت ضغط الزمن التلفزيوني والمساحة الضيقة المُعطاة لهم بين غابة من البرامج وفقرات الأخبار والإعلان، مدفوعين بتلك الرغبة العارمة لحب الظهور.
وإن كان لا يصح التعميم هنا، فليس الكل سواء، إلا أنه لا يمكن العبور ببساطة فوق أسماء امتهنت بين ليلة وضحاها الهواء، بلعبة تلفزيون. يصح السؤال هنا عن هؤلاء. من هم؟ من الذي أنتجهم؟ وكيف يمكن لمدرّس أو صيدلي أو عسكري متقاعد أن يصبح خبيراً استراتيجياً؟ نجماً؟ وكيف تنقلب حياة هؤلاء بعد «الطلّة» الثانية على الشاشة؟

ضربة حظ

في إحدى المرات، اتصل أحد معدي البرامج الحوارية ـ talk show ـ بأستاذ جامعي، طالباً منه الحديث عن الأوضاع في تونس. حدث ذلك في عزّ الأزمة هناك. اعتذر الرجل عن عدم المشاركة، كونه متخصصاً بالشأن التركي لا بالشأن التونسي. في المرة الثانية، اتصل معدّ آخر من القناة نفسها للبرنامج نفسه، طالباً الأمر نفسه من الرجل نفسه، فاعتذر الأخير للسبب نفسه. مع ذلك، لم يكلّ المعدّون هناك، فعاود ثالث منهم الاتصال، فظنّ الرجل أن ثمة من يمازحه، وردّ بالإيجاب على محدثه واتفق معه على الموعد.
في الوقت المحدد، حضرت سيارة القناة لتقلّ «الأستاذ» إلى الاستديو. أدرك الأخير صعوبة الموقف، إلا أن أوان التراجع قد فات، فالهواء ينتظر. بدأ البث المباشر مع مقدم البرنامج (…) والآن سنكون مع ضيفنا المحلل السياسي... لنتحدث عن واقع الأزمة في تونس». حدث ذلك قبل فرار الرئيس زين العابدين بن علي ببضع ساعات. ينتهي التقديم ويبدأ رشق الأسئلة: كيف تقوّم الوضع في اليمن؟ وماذا عن الثورة؟ وماذا تتوقع لنظام زين العابدين بن علي؟ هنا، بدأ التحليل. ومن جملة ما قاله الرجل إنه لا يطول مكوث بن علي في الحكم. ودائماً هناك الجواب «أيامه معدودة». لكن، لحسن حظ هذا الأستاذ أن بن علي لم ينتظر أياماً، فقد هرب عقب ساعات من انتهاء البث.
هرب بن علي وبدأ نجم الأستاذ الجامعي بالصعود. «تناقلته» البرامج الحوارية. من استضافة إلى أخرى. صار الرجل محللاً، وتوسع نشاطه من البرامج الحوارية اللبنانية إلى المحاضرة في تونس. بلعبة تلفزيون، صار الأستاذ محللاً.
لا يهم كيف ولماذا؟ المهم هو الشهرة. هي الحياة التي تنقلب رأساً على عقب. في اللباس. في طريقة الحديث. في كل شيء، حتى في الألفاظ التي يطغى عليها «كلام كبير»، كالسياقات مثلاً والأجندة الخارجية وخيوط المؤامرة.
هكذا يولد المحلل. كلمات متخصصة ومركبة في بعض الأحيان. لعثمات بلغة أخرى يتبعها ترجمة، توهم بثقافة أجنبية. أناقة. نجاح في التوقعات. أما التخصص؟ فلا يهم.
في المنطق الأكاديمي، ليس «هناك مهنة اسمها محلل سياسي»، تقول مدرّسة مادة البحث العلمي في كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية الدكتورة نهوند القادري. هناك "موضة وظهور صنعه التلفزيون". وفي المنطق نفسه، يوجد «3 أنواع من البشر لهم صفة للكلام، أولهم صاحب السلطة، وثانيهم المتخصص في شأن ما، وثالثهم من يمثل رأي عامة الشعب أو ما يصطلح على تسميته public celebrity»، يقول الأستاذ الجامعي جمال واكيم. وفي أبسط الأحوال، يفترض أن يكون «لديه القدرة على استيعاب وتحليل النظريات السياسية والعلاقات في ما بينها ليصبح قادراً على طرح تحليل بناء على نظرية، وليس بالمطلق»، يقول داود ابراهيم، مدرّس مادة الصحافة في الجامعة اللبنانية الدولية. لا شيء اسمه تحليل بالمطلق. هذا ثابت. ثمة متخصص في شأنٍ ما. ففي الولايات المتحدة مثلاً، عندما بدأت غزوها للعراق، دربت مجموعة من المتخصصين في شؤون محددة. دربتهم على كل شيء، حتى «تصفيفة الشعر». أما هنا، فكل شيء مباح. هكذا، لا مانع بأن يخرج «الصيدلاني» ليتحدث عن «آفاق المرحلة بعد الانتخابات في سوريا»، ولا مانع أيضاً في أن يخرج ناشط «تويتري» للحديث عن الملف النووي الإيراني أو أن يستفيض مقدم متقاعد من الشرطة العسكرية لم يشارك في حرب واحدة للحديث عن «تكتيكات» الحرب الدائرة في العراق مثلاً. والأنكى من كل ذلك، أن هؤلاء، بعد «طلتين» أو ثلاث، يتضخم اللقب، من محلل استراتيجي، إلى سياسي، إلى عسكري. وهكذا، يولد الخارق. تضخّم ساهمت فيه الشاشة نفسها. الإعلام برمته، عندما فشل في ملء هوائه الفارغ ببرامج هادفة. والقصة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما اشترط على التلفزيونات، في إحدى مواد قانون الإعلام، أن يكون هناك «60% من الهواء منتج محلياً». وهنا، صارت المعضلة التي ولّدت هذه الظاهرة. ففي السابق، كان الأمر سهلاً، عندما كانت التلفزيونات تبث «ربع نهار». أما عندما توسعت مساحة البث «بتنا نحتاج إلى من يملأ الفراغ، فكانت برامج التوك شو أحدها، تلك التي لا تحتاج إلى كلفة باهظة، كما المسلسلات، فكل ما هو مطلوب طاولة ومقدم وضيفان وعدد من الكاميرات»، يتابع واكيم. من هنا «فتح شي اسمه عوالم الصباح، واعتبروه إنتاج محلي»، وبعدها بدأت تكر سبحة البرامج الحوارية التي تحتاج إلى من يملأ مقاعدها، فكان المحلل السياسي. هذه الظاهرة التي بدأت في الفترة المترافقة مع غزو العراق «وكانت أولى نواتها التحليل العسكري على شاشة الجزيرة ومن ثم أبو ظبي»، بحسب واكيم.

خبير استراتيجي حضرتك؟

لا يعوزنا كي نصبح محللين أكثر من بناء علاقة شخصية مع شخصٍ يشبه «أبو زكي». وأبو زكي هذا، الذي يعمل حالياً في قناة دبي، كان منسق إنتاج في قناة أبو ظبي. ساهم هذا الرجل في صعود نجم أحد المحللين اللامعين الآن، فرفعه من رتبة مترجم في سفارة إحدى الدول إلى محلل سياسي على قنوات كثيرة. ومثله كثيرون. فغالباً ما تلعب العلاقة الشخصية في إنتاج محلل. ولكنها، ليست شرطاً وحيداً، فثمة شروط أخرى، منها «متانة العلاقة مع المخابرات»، فهذه تنتج أيضاً محللين. أما الشرط الثالث، فهو الطلاقة في الكلام والتي تترجم بـ«2 تكتيك: أن لا تتلعثم وأن تعمل على الجملة القصيرة»، يقول ابراهيم. والأهم من ذلك كله «متوافر في أي وقت ومن يمّنا». وهذا كاف. اما ما عدا ذلك، فيمكن تمريره. المغالطات التي قد ترد والتي نتلقاها كمسلّمات. الفكرة ونقيضها على اللسان ذاته. فهنا «ليس المطلوب إقناع الناس بوجهة النظر، المطلوب هو منع الضيف الآخر من طرح وجهة نظره على طريقة السفسطائيين في عهد سقراط وأرسطو»، يقول واكيم. والمطلوب إيضاً هو إيهام الناس بأنهم إلهيون في تحليلاتهم. فهو خبير استراتيجي «وعليه أن يبدو منهكاً من فرط الثقافة. أن يشعر المتفرجين بأنه يبذل مجهوداً عقلياً جباراً لكي يبسط لهم النظريات العلمية المعقدة التي يعرفها»، كما يحلو للكاتب علاء الأسواني وصف هؤلاء. أما نحن، فلا دور لنا إلا تلقي ما يقولون. ما المعيار؟ «ليك ما قطّش بالحكي». هذا ما يقوله كثيرون. هكذا، يولد المحلل. بالصدفة. بالمعرفة الشخصية. بالبراعة في الحديث. باختصار، داخل كل واحد منا، نواة محلل... اعملوا على إخراجه .



وهبة قاطيشا


ضابط متقاعد، ومحلل عسكري مقرّب من «القوات اللبنانيّة». أحد أهم وأبرز تحليلاته العسكريّة «الفذّة»، كان في 2006. آنذاك، نصح المقاومة اللبنانيّة بالاستسلام، جازماً خلال أكثر من إطلالة تلفزيونيّة، بأنّ الجيش الإسرائيلي سيصل إلى بيروت خلال ساعات.

أنيس النقاش


يمرّ في كتاب «أسرار الصندوق الأسود» لغسان شربل، متحدثاً عن تاريخ المقاومة الفلسطينيّة، وعن دوره في اغتيال رئيس الوزراء الإيراني السابق، شابور بختيار، وعن عمليّة «أوبك» الشهيرة مع «كارلوس» الشهير أيضاً. اعتقل في فرنسا وأُفرج عنه بداية التسعينيات. يدير الآن مركزاً للدراسات، يدعى «أمان». يستغرب كثيرون جديّة النقاش، ويعتقدون أنها تضيف إلى حديثه «صدقية مضاعفة».


محمد سلام


ظل مسؤول «التثقيف السياسي» في تيار المستقبل «مغموراً»، وغير معروف، تقريباً، حتى حادثة «القمقم» المؤثرة للغاية. يومذاك، وخلال حلقةٍ مباشرة على الهواء، مع الزميل مارسيل غانم، عبس سلام، عبسة مارد، وقال كلمته الشهيرة: «استيقظ المارد السُّني». ثم راح يكررها مزهواً.

صالح المشنوق


نجل وزير الداخليّة الحالي، ولكنه «محلل استراتيجي»، ومحاضر في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة. دعا إلى مهرجان «حاشد» للاعتراض على مشاركة حزب الله بالقتال في سوريا، ولم يوفق في جمع أكثر من مئة مناصر. رغم ذلك، ألقى خطاباً حاداً، ولوّح بإصبعه، كما يفعل الخطباء.


أمين حطيط


عميد متقاعد، شارك في الإشراف على وضع «الخط الأزرق»، بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب، وهي حادثة يستشهد بها حطيط دائماً. وهو محلل «عسكري» من «الطراز الرفيع». كيف لا، وهو من أوائل المعلّقين على الأحداث العسكريّة دائماً، فضلاً عن أنه صاحب كتاب شهير عن الجيوش والحروب، يدعى «حروب الرسول».


نديم قطيش


صاحب فكرة «غزو السرايا» الشهيرة، بعد استشارة زوجته التي منحته «الضوء الأخضر». يدير برنامجاً ساخراً، يعلّق فيه على الأحداث السياسيّة في البلاد، وله أيضاً، كتابٌ يصحّ الافتراض بأنه كتاب شهير. كتاب شِعر، عنوانه: «وأنا حبلى أيضاً». بدأ نديم قطيش حياته السياسيّة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل أن ينتقل لاحقاً إلى «ثورة الأرز».

(بريشة ليا دندش)