شيئاً فشيئاً، تتضخم الذاكرة في بيروت. أمكنة تخبو ثم تموت، فتنبت مكانها أخرى. بيروت التي كانت حتى سنوات مضت أليفة ومرتبطة بماضٍ جميل، تستحيل اليوم رقعة كبيرة من الباطون « المسلّح». ماتت تفاصيل كثيرة في زواياها، وما بقي فيها من الألفة يلفظ الأنفاس الأخيرة. بيروت التي أعادت ترتيب ذاكرتها وشوارعها، وانتقت ناسها، ساقت في طريقها بيوتاً كانت هويتها لتحلّ مكانها بنايات شاهقة يرتطم رأسها في السماء .
وفي درب التجديد وعمليات التجميل الواسعة التي طاولت جسدها المشوّه بعد الحرب، كان لا بدّ من سوق ميزات أخرى، لعل منها المكتبات التي تؤرخ لزمن مرّ على بيروت . مكتبة تلو الأخرى تقفل أبوابها، مفسحة المجال أمام أمكنة المدينة الحديثة .

مكتبة راس بيروت العتيقة

لا تزال فاديا جحا، صاحبة مكتبة رأس بيروت التي أقفلت أبوابها أخيراً في شارع بلس، تمرّ من شارعها . تأتي مطمئنة إلى حال المكان الذي عايشته سنين طويلة، منذ سنوات الحرب الأهلية. هذا ما يقوله العم خليل، صاحب محل الحقائب في بلس، بحزن.
حزن العم مضاعف . الأول على « الجيرة « ، والثاني على « مصيره « هو الآخر المهدّد بالإقفال. فقد تلقى قبل فترة إنذاراً بضرورة إخلاء المبنى، الذي سيهدم قريباً « من أجل إعادة إعمار مبنى يتلاءم مع مظهر الحيّ الراقي»، يقول . معظم سكان المبنى طُلب إليهم إخلاء شققهم، كما حصل مع دار الثقافة الذي كان داخل هذا المبنى وأفرغ قبل ستة أشهر بعد طلب من المالك. يمكن ملاحظة رفوف الكتب الفارغة من النافذة إذا ما ابتعدت قليلاً . يقول خليل « العثماني « إن مكتبة رأس بيروت أقفلت لأنه « هنا ستصعد بناية إلى السماء مكانها «، يقول متهكماً. ويشير بإصبعه إلى محال «الهارديز « ، بجانب منزل الرئيس السنيورة، متابعاً: «هناك كانت المكتبة «.

أنكل جو وذاكرة المدينة

مع كل مكتبة تغلق أبوابها، عالم يُقفَل. يختصر العم . ليس العالم فحسب، فثمة ذاكرة تلغى ومدينة بأناقتها تغور. وكلما ازدادت عدد الشوارع وازدادت معها المقاهي، غلبت عليها السطحية أكثر . في شارع الحمرا، وبين محل لبيع المعجنات وآخر اختفت معالمه أمام سلة حديدية تحوي كتباً بسعر ألف ليرة فقط، انتقلت مكتبة « الأنكل جو». تلك التي لم يعد يدلّ عليها سوى لافتة صغيرة كتب اسمها بخط اليد وباللون الأحمر علها تلفت انتباه العابرين. يرفض صاحب المكتبة الجالس بين الأعمدة المصنوعة من الكتب الحديث . وهنا، لا تجد سوى أن تعذر هذا الرجل الذي كان يملك مكتبة بمساحة جيدة وصار مالكاً لقطعة من الرصيف في إحدى الزواريب لعرض كتبه.

عصام عياد و «باسكوتشي»

رواد شارع الحمرا يعرفون جيداً المكان الأول لمكتبة عياد . ذاك الذي صار مطعماً ثم مقهى ثم... لا شيء. اليوم، انتقل عصام عيّاد بمكتبته إلى شارع خلفي قرب سنتر إيفوار . المارّ من هناك، سترشده عيناه إلى قصاصة ورقية أخذت من جريدة لمقابلة أجريت مع صاحب المكتبة عصام عياد. هذا هو العنوان الجديد يضاف إليه صور قديمة أبرزها صورة لجمال عبد الناصر . في هذا المكان بالذات، يجدر عليك الدخول بالقدم اليمنى، لأن هذا المكان مبارك لما يحوي من كتب قديمة ونادرة لا تسعها مساحة المكتبة . وهي برغم ازدحام الكتب التي تجعلك تشعر بالتيه في هذا العالم، إلا أنها تحفز على القراءة بنهم. خلف جدران الكتب، خرق عياد شباكاً صغيراً له ولمكتبه، في دلالة على وجوده. هنا، حيث يعيش .
المكتبة مؤطرة بخزائن حديدية أكلها الصدأ، تتراصف الكتب المغلفة بأكياس من النايلون التي لم تمنع الزائر من تنشق رائحتها العتيقة بترتيب متقَن . كل موضوع على حدة : الأدب، التاريخ، الفلسفة . كل له رف أو مجموعة رفوف تتدرج من الأزمنة الغابرة حتى الزمن الحاضر، بمحاكاة للغات عديدة . مثلاً، قد تجد كتاباً عن الثورة الفرنسية باللغة الإنكليزية من عام 1824. وليس غريباً أن تجد كتباً أندر لدى مختار الكتب عصام عياد . ثم إنك قد تجد اوراقاً بيضاء تنصحك بكتاب ما. «أدهى رجال الحرب كتاب من أجمل الكتب « ، هكذا دوّن عياد على زاوية من الزوايا . حال عياد كحال صاحب مكتبة « الأنكل جو» يرفض الحديث، والسبب أنّ كل المقابلات التي أجراها، والصرخات التي أطلقها عن تراجع دور المكتبة والقرّاء لم تغيّر شيئاً. جعلته يشعر بالخيبة أكثر وأكثر كلما انقطع القرّاء عن شراء الكتب. يقول مستهزئاً : «لمين بدي احكي، للقراء المصطفين أمام المكتبة أم لمين؟ «. قطع عهداً على حاله بأنه لن يجري مقابلة صحفية بعد. هدفه الآن التوغل أكثر وأكثر في عالمه، الانعزال داخل صفحات الكتب. يعزّز ذاكرته أكثر وأكثر . هي الوحيدة التي ستؤنسه في زمان آخر. المؤسف من هذا كله، أنني سمعته يقول إنه يرمي كتباً في أكياس النفايات، في إشارة إلى انقطاع قرّائها.
نسي عياد كل هذا . اليوم، ينشغل الرجل بترتيب كتبه بحسب فحواها في مكتبته التي ازدحمت بكتب امتدت إلى الدرج الأسود الذي يصل إلى «العلية «. يتفرّد بوجود الكتب النادرة التي لن يجدها أحد ما في مكتبة أخرى . لكن، مع ذلك، يحزن الرجل لما آلت إليه الحال، وإن كان يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن ضوضاء المدينة المتجددة وشارع الحمرا الذي تبدّلت معالمه . يعيش الخيبة وحيداً في عالمه، محاولاً توفير إيجار محله البالغ 1700 دولار أميركي، لا أكثر ولا أقل . يختم: «لقد أصبحنا في زمن، الكتاب لا يؤمّن لقمة العيش».

كان اسمه المعرّي

عياد وجو وفاديا ليسوا آخر العنقود. كان هناك في شارع الحمرا أيضاً مكتبة اسمها «المعري «. راحت هي الأخرى. نبت مكانها مقهى ليلي ـ «PUB»، كما يحلو للكثيرين تسميته . ذهب المعري، الذي عاش خمسين عاماً بين رفوف الكتب إلى البيت. حمل من الكتب ما يتسع له بيته، وترك البقية . جلس في البيت نهائياً، منتظراً لقمة عيش من زبائن قليلين استطاع نسج علاقات معهم. لم يعد لديه سوى الخيبة، وهذه حال من سيأتي بعد المعري .