صنعاء | يحدث أن تكون مستلقياً على كنبة، بجانب مكتبة أهلكها الغبار. لا كهرباء. وبالتالي لا تلفاز ولا راديو ولا هاتف ذكي تستعين به لمتابعة أخبار حربٍ دائرة في عقر دارك. كل ذلك يصبح مستحيلاً في لحظةٍ واحدة، وأنت ضجر. لا شيء في متناول يدك أو يمكن أن تلتقطه عينيك إلا ذلك اللهب الذي تخلّفه الصواريخ النازلة من السماء إلى البيوت التي كانت، في ما مضى، آمنة.
لم يعد بالإمكان، هنا، سوى سماع صوت الطائرة التي تأتي بموتٍ كثير. هكذا، في كل يوم. ننتظر هذا الصوت. نراقب السماء التي تستحيل لهباً أحمر من المضادات الصاعدة التي تحاول قدر الإمكان تخفيف الموت... بلا جدوى.
عندما يشتدّ الضرب، تجد نفسك ـ دونما شعور ـ قد قفزت إلى الحجرة المحشورة في وسط المنزل. والدتك المصابة بداء الضغط تصرخ وتصب جام لعناتها على المجرمين. نتكوم إلى جانب بعضنا في مشهد يبدو أقرب لما كنا قد شاهدناه في أحد أفلام الرعب، أو ما كنا قد قرأناه في كتب الدين المدرسية عن أهوال يوم القيامة! يتهاوى زجاج النوافذ، التي كنا قد غلفناها بشرائط لاصقة شفافة لتخفيف حدة تساقطها من شدة ضغط الطيران. وعندما يشتد القصف أكثر على جبهة جبل «نقم»، تعلو صرخات الأطفال والنساء والرجال ويصبح الموت أقرب. وفي الخارج، «تتساقط» كثف النار على رؤوس الفارين من موت محتّم. تلك الكثف التي تخلفها حمم اللهب التي تعصف من كل مكان حولك. كل ذلك قد يصبح مشهداً تافهاً أمام صرخات الأمهات التائهات في الشوارع بحثاً عن أطفالهنّ. ومن تجد منهن سيارة تتعلّق بنافذتها، راجية سائقها أن يصحبها معه إلى حيث أضاعت ابنها. أما من لم تفقد ابنها في تلك العاصفة، فتهرب متأبطة أطفالها، تاركة كل شيء خلفها.
الهرب صار عادياً في حينا. صار جماعياً. الزحف إلى أماكن أكثر أمناً يحدث في كل يوم. والهاربون يتركون بيوتهم مشرّعة للفوضى. لم يعد ذلك مهماً، فقد استحال تفصيلاً لا حاجة إليهم. المهم هنا هو النجاة بمن نفد من الموت.
النار تندلع من كل زاوية. الدخان الأصفر الذي قيل إنه دخان غازات سامة يتطاير في الأفق. السيارات التي كانت في حالة سبات منذ أكثر من شهر تحطم بعضها جراء تطاير الحجارة من الجبل الأمين الذي كان يحرس صنعاء، الذي تم قصفه. أما السيارات التي لا زالت تعمل، فتتحرك بلا خطة، نحو وجهة قد تكون آمنة. ونحن، فنفر كل يوم. نحمل اشياءنا الضرورية ونركب سيارتنا الكسولة التي أتعبتها الشظايا ونهرب، وفي طريقنا سندسّ بيننا رجلاً وزوجته وطفليه. على الطريق، سيتذكر هذا الرجل بأن أبواب بيته تركها مفتوحة. سيكلّم زوجته باللهجة الدارجة التي نعرفها، وكأنه يعاتبها «ليش ما أخدّتي الدهب معك؟». ثم ينكسر، مطرقاً رأسه. سيعيد السؤال مرة أخرى وقد اغرورقت عينيه المحمرتين بالدموع «ليش ما اخدتي الدهب معك، وين بدنا نرون ما عدنا مكان نوحه، ايش بنعمل، راح كل شي. كل شي».
عند أقرب موقف للسيارات الأخرى، سننزل تلك العائلة، فنحن وجهتنا كانت إلى خارج جحيم صنعاء. تنطلق السيارة كقذيفة بعد أن أدركت أنها في سباق مع صواريخ نقم التي تطايرت في كل مكان. إنه السباق مع الموت. على طول الطريق، سنصادف ناساً كثراً هاربين. سنصادف امرأتين باكيتين، تبحثان عن سيارة تقلهما إلى مكان انفجار كان قد حدث للتو. كانت إحداهما تصرخ «أهلي، أهلي، أهلي عند الانفجار رجعوني عند أهلي خلونا نموت سوى، أمي، رجعوني لأمي، انا ليش طلعت اليوم؟». والأخرى تصرخ «عيالي عيالي فين، ما قدرت اتصل فيهم». حاولنا قدر الإمكان مساعدتها في الاتصال بأطفالها، لكن بلا جدوى. فالتغطية في جميع الشبكات مقطوعة، ولا طائل من المحاولة. وعلى ما تقول الماكينة الآلية «الرجاء عدم المحاولة».
نخرج من المنطقة سوياً، ونتصل من أقرب مركز للهواتف بهاتف منزل أحد الجيران، فتجيب الجارة بأن المنزل انفجرت قنبلة بجواره، وقد خرج الوالد ومعه أطفاله إلى منطقة أخرى، ولم يبق في البيت إلا الجدّ المقعد وابنه يحرسان البيت إلى حين عودة الوالد بعدما يكون قد أمّن أطفاله في أحد المنازل.
سنكمل طريقنا، وسنشاهد هول الدمار الذي أصاب كل شيء تقريباً. السيارات التي تحطمت أجزاء كبيرة منها والدكاكين التي طارت أبوابها والراكضون نحو وجهة لا يعرفونها هرباً من قذيفة او انفجار او رصاصة طائشة. يذكرني هذا المشهد بقوله تعالى «يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه».
تركنا كل شيء خلفنا ورأينا كيف ابتعلت الحمم أحلامنا وبيوتنا الآمنة. الكل فعل ما فعلناه، فالحياة في البلد، الذي لم يعد سعيداً، صارت قاسية. اتسعت رقعة الموت. صارت القبور طبقات. وصار الهرب مهنة. ناس يهربون من موتهم وبيوت مشرّعة في أحياء مقفرة، وإن بقي أحد في تلك البيوت فلحراستها فقط. اليوم، يحرس شباب مسلحون أحياءهم. يمنعون دخول الغرباء إليها إلى حين عودة أصحاب البيوت، إذ في مثل تلك الحالات، تنشط مهنة اللصوص والعصابات.
لم يعد أمامنا سوى أن نسأل: أي ذاكرة تستطيع أن تحتمل كل هذا الجحيم؟ وكم من عمر نحتاج إضافة إلى عمرنا كي نستطيع أن نجلي تلك النار من ذاكرة الأيام؟