منذ اللحظة الأولى، في 21 أيار 2000، بدا المشهد جلياً بكل تفاصيله. ثمرة سنوات طويلة من المعاناة، تضعنا أمام جيش يُقهر... لا بل يُحطم بإرادة مقاومة لم تستكن.من بوابة القنطرة ــ علمان دخلنا قوافل. بسرعة انهارت بوابة «القبعات الزرق» التي لم يصدّق رجالها ما يحدث، وكانت الوجهة دير سريان. الجموع تركض نحو الشرق، وبصعوبة نلتقط أنفاسنا لنعاود الركض، ثم نتماسك لنتابع المسير سيراً على الأقدام.

البعض حظي بدراجات نارية أقلته خففت عنه وطأة الشمس الحارقة. هنا لم يشعر أحد بالتعب، لا وقت للتروي. وصلنا الى علمان. البعض أراد الصلاة عند مقام ديني بدا مهجوراً، وقرب منزل دلّت الأشجار المرويّة الواقعة عند مدخله أنه مأهول بسكانه، طرق أحدهم الباب ليُبشّر ساكنيه بالفرح. بداية لم يستجيبوا، بسبب ارتعابهم مما يجري، وهم تعودوا على الجلبة التي كان يُحدثها جُند الاحتلال وقرقعة سلاحهم. ازداد الطرق، لم يصدقوا ما رأوه، فكانت الدبكة الشعبية التي ألهبت ساحة المقام.
تابعت الجموع سيرها نحو دير سريان. وهناك بدأنا نسمع أن سُبحة الفرح التي عمت القرى كرّت، لنتوغل إلى الطيبة، البلدة التي شهد أبناؤها صورتين متناقضتين، صورة الجموع تقتحم الساحة وتزف الخبر اليقين، وصورة الفلول المتمركزة في التلال المنهارة وصرير الآليات العسكرية الهاربة من «المشروع». صورتان في جغرافيا واحدة... في ساحة الطيبة، شاهدنا كيف جاء مُسنٌ يُلوّح بصورة للسيد حسن نصرالله أخذت من صحيفة قبل سنوات، أخرجها من مخبأ سري، وهو يُردّد: «كنت مخبّيها مع شوية رصاص، هلق صار وقت طلّعها»، كانت تلك الصورة التأشيرة الى قلوب المحتفلين في الساحة، كانت الشارة الأولى لإقامة مهرجان الفرح. هناك اختلط بكاء لا يشبه بكاء المآتم، إنه بكاء استثنائي لم يكن مألوفاً إلا في حالة كحالة ذاك اليوم.

التحرير ليس مجرد
لحظات من الفرح بل عصر يليق بصانعيه



في بنت جبيل، بقي الذهول مسيطراً. أيُعقل أنني في «ساحة النبيَّة»؟ الساحة التي سمعنا عنها روايات تناقلها كثيرون، وهم في غربة قسرية عنها. هنا مارون الراس ويارون. وفي جانب محاذ، عيترون ومحيبيب وبليدا وميس الجبل. وفي الاعلى، حولا ومركبا و... كان «السيّد» حاضراً في كل ساحة من ساحات القرى التي استعادت أنفاسها، هواءها، أرضها، زرعها، استعادت روحها التي تاهت لسنوات، كان حديث «الختايرية» المقيمين والوافدين: «كتّر خيرو السيد. الله يخلّيلنا ايّاه».
كل الذين عاشوا اللحظات الأولى لتحرير الجنوب شعروا بأنها لحظات ستبقى محفورة في ذاكرة باتت مثخنة بالأحداث والجراح، لكنّ حدث الجنوب كان الأكثر سطوعاً، لا سيّما عند المصورين الصحافيين الذين سنحت لهم الفرصة أو «الصدفة» ربما، أن يكونوا في عداد المجموعات الأولى التي توغلت في الارض المحررة.
حين تكون الصورة عن الجنوب، فإن المسؤولية لدى المصوّر الصحافي تتعاظم، فكيف إذا كانت عدسة المصوّر واكبت مراحل الاحتلال في كل هذه السنوات؟! ألا يجدر بنا القول إنها محطة من المحطات الأبرز التي يمكن للمرء أن يعايشها؟ ولعلها الأبرز في ما نسميه «التاريخ اللبناني». لكن الخوف يبقى يتملك المصوّر وعدسته من أن يُخفق في نقل الصورة الأكثر تعبيراً عن مشهد التحرير. إنه حدث أكبر من أن تجسّده صورة صحافية، وأعظم من أن تحكيه مقالة أدبية، ولكن لا بد من خوض المغامرة ودخول الامتحان الصعب.
اول ما يشعر به المصور الصحافي الذي واكب التحرير في لحظاته الأولى، إن كان ينتمي الى ارض تلك القضية التي نُسجت صفحاتُها منذ بدأ الاحتلال يرتسم حول فلسطين، هو الإخفاق في ان يكون محايداً، فلا مجال هنا للحياد، لأنك لست في زواريب الحروب الداخلية الدائرة بين الطوائف والملل، انت بين حد فاصل بين الاحتلال من جهة، وناس الجنوب الذين تنتمي إليهم من جهة اخرى. تتسارع اللحظات وتدور الأسئلة: ماذا نريد من الحدث؟ ماذا عن الصورة التي نبحث عنها؟ والتي ستحكي حكاية اللحظات الأولى لانبثاق الفجر المنتظر منذ أزمنة. في تلك اللحظات استُحضر الزمان والمكان والإنسان. إنها الصورة التي تشكل ثمرة كل سنين الاحتلال، إنها ثمرة كل سنين المقاومة وسيل الدماء التي قُدّمت في كل قرية وبلدة ودرب، مناطق حفظناها عن ظهر قلب، هذا معبر بيت ياحون الذي كانت حاميته تمنع دخول جنازات الموتى عبره، لتُدفن في قراها، وهناك تلة الحقبان التي أمطرها بعض الرفاق بالنار، منهم من انضم الى قوافل الشهادة، ومنهم ما زلنا نلتقي به الى اليوم.
المقاومون الذين غابوا عن الصورة كانوا أبطالها. رأيناهم في السر يقتحمون سماء تلك القرى التي عاشت فرح الروح، وحده مقاوم جاء بزيّه العسكري وبندقيته إلى ساحة الطيبة ليفاجئ أمه التي انهارت وأغرقتنا بدموعها المحبوسة منذ سنوات. لقد تحقق الحلم ولم نعد نتبصّر الحقيقة. إنه يوم الانعتاق الكبير.
يومها. هزّنا فرحُ الناس بزوال كابوس الاحتلال، أخذ مشهد التحرير الصورةَ إلى أبعد مما كنا نرى، إلى تفاصيل الوجوه التي انزرعت فينا، بعدما مضت لترسم المشهد الجنوبي الجميل، ناسُ الجنوب لم يمجّدوا المقاومة لأنها المجد، ولن يرفعوها إلى السماء لأنها العلياء. ناس الجنوب جثوا عند قبور موتاهم كأنه يوم انبعاث الروح. كأننا رأينا أنبياء وقديسين يسيرون مع تلك الجموع الزاحفة إلى أرض اشتاق إليها أهلها، كان بحق، يوم انكسار امبراطورية الموت المدججة بالحديد والنار.
زمن جديد أدخلنا إياه يوم الخامس والعشرين من أيار، ودفعنا إليه لنجدّد الولاء لمقاومة باتت تُشبه مصابيح تعجز الريح عن إطفائها. يومها، لم أُجِد تلاوةَ ولو بضع كلمات تحكي عن المشهد. ربما الصورة أجادت. لم تكن اللحظات الأولى للتحرير لحظات... هي عصرٌ يليق بنا... وبصانعيها.