غزّة | لم نشهد تحايلاً على الواقع كالذي يفعله الفنانون الفلسطينيون في إنتاج أعمال فنية من العدم. انطلاقاً من هذا المبدأ، دخلت «الأخبار» أحد مواقع تصوير المسلسل الفلسطيني «الفدائي» (قصة وسيناريو وحوار أحمد عبد اللطيف داود، وإخراج محمد خليفة، ومعالجة درامية زهير الإفرنجي، وإنتاج شركة «ريكويرد فيجين») في غزّة الذي يعدّ نموذجاً عن تلك الأعمال.
ينبش العمل قصصاً في سياق الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ويستعيد أخرى منسيّة يقبع أبطالها خلف قضبان الاحتلال. في شهر رمضان المقبل، سيظهر «الفدائي» المزدحم بالحبكات الدرامية على شاشة فضائية «الأقصى» التابعة لحركة «حماس».
في زحمة العمل، نسترق من السيناريست أحمد داود بعض الوقت ليحدّثنا عن «الفدائي» الذي يتمحور حول ثيمتي المقاومة والهوّية اللتين تنبثق عنهما ثيمات أخرى تفسّر الصراع بعد 67 عاماً على النكبة. يقول داود إنّ «المسلسل يعالج قضيتي الاستيطان والأسر، جاعلاً من الخليل (جنوب الضفة الغربية) وسجني «إيشل» و«عسقلان» و«مستشفى الرملة» أمكنة محوريّة تدور فيها أحداثه المركبة». ويَعِدُ داود المُشاهد بأنّه سيكون أمام مادة دسمة مستقاة من وقائع وشهادات حيّة لأهل الخليل، وأسرى محرّرين كانوا على تماسٍ مع السجّان الإسرائيلي، خصوصاً محرّري صفقة «شاليط» عام 2011.
خلال متابعتنا للممثلين في موقع التصوير، نجد أنّ المعالجة الدرامية للمسلسل فرضت بطولة جماعية فسّرتها مشاهد العمل الموزّعة على ثلاثين حلقة. يذكر أنّ لائحة الأبطال تضم: كاظم الغف (دور صالح)، ووليد أبو جياب (دور نضال)، ومادلين ثريا (دور الأسيرة فاطمة الزق)، وعبير أبو عتيلة (دور أم نضال)، وسعد العطار (دور رئيس جهاز الاستخبارات الصهيونية)، وعلي نسمان (دور الأسير حسن)، والممثلة الشابة منال أبو موسى، وغيرهم. ورغم أنّ كثيراً من تلك المشاهد تدور في مدينة الخليل، غير أنّ الكاميرا لم تصل إلى هناك نظراً إلى القيود الإسرائيلية. إذاً، كيف تم التغلّب على عقبة الجغرافيا؟ يجيب المخرج محمد خليفة: «تحايل طاقم العمل على جغرافيا غزّة المختلفة عن البيئة الجبلية للبلدة القديمة في الخليل، إذ جالت عدسة كاميرا المسلسل على مدار خمسة أشهر على تلّتي «الريس» و«المنطار» (شرقاً)، نظراً لارتفاعهما النسبيّ عن أرض القطاع السهلية». وماذا عن المواقع الأثرية في الخليل؟ يقول: «حاولنا تعويض ذلك بالتنقّل بين المواقع الأثرية في منطقة «البلد»، مروراً بـ«المسجد العمري» الذي جعلناه معادلاً مكانيّاً لـ«الحرم الإبراهيمي».

سيعرض في رمضان
على قناة «الأقصى» التابعة
لحركة «حماس»

إضافة إلى قضايا حرق وسرقة المستوطنين لأراضي الفلسطينيين في البلدة القديمة والاستيلاء على منازلهم ومحالهم، قارب السيناريست عبد اللطيف داود السجون الإسرائيلية بعيداً عن المغالاة والصور النمطيّة المقتصرة على ضرب الأسرى، إذ حاكى التعذيب النفسي الذي يتعرّض له الأسرى، كما سلّط الضوء على معاناتهم داخل العزل الانفرادي، وحرمان ذويهم من زيارتهم. هنا، يقول داود: «أردت أيضاً الإضاءة على تعلّق الأسرى بالأمل، متناولاً قصة أحد الأسرى الذي نجح في تهريب نطفته من السجن إلى زوجته، قبل أن يتمكنا من الإنجاب، إضافة إلى تجربة الأسيرة المحرّرة فاطمة الزق التي أنجبت طفلها يوسف داخل السجن».
على خطٍ موازٍ، يدفع العمل المُشاهد إلى التفاعل مع الحكايات المستورة خلف جدران «مستشفى الرملة» الذي يصفه الأسرى بأنّه «المشرحة» الأعظم بحقّهم، من خلال حكاية الأسير «حسن» التي سُرقت كليته بعدما قال الأطباء إنّه يحتاج إلى عملية لاستئصال «الزائدة».
يخبرنا المخرج محمد خليفة إنّه ارتأى تصوير تلك المشاهد في أحد السجون المبنيّة على الطريقة الإسرائيلية في مدينة «دير البلح» (وسط غزّة)، مستعيناً بالعناصر اللازمة لخلق جوٍّ مماثل لسجون الاحتلال، عدا عن الاهتمام بزيّ الأسرى والصهاينة التقليدي.
ونظراً إلى غياب أيّ مدينة للإنتاج وأكاديميات لصناعة النجوم في القطاع، أخضع خليفة الممثلين لتدريبات مكثّفة قبل التصوير.
لكن ماذا عن العقبات أثناء التصوير؟ يؤكد أّنّ «فريق العمل كان يضطر لاعادة المشهد عشرات المرات، نظراً لاستخدامه أجهزة حساسة تلتقط كلّ الأصوات المحيطة به، كأصوات المارّة في الشارع وأبواق السيارات». ويتابع: «قلّة أفراد الطاقم كانت من أهم التحدّيات التي واجهناها، فلم يتجاوز عددهم الـ15، من دون أن ننسى ضعف الإمكانات في ظلّ الحصار الخانق، وندرة معدّات فضائية «الأقصى» التي دمّر الاحتلال مقرّها في الحرب الأخيرة على غزّة».
ويطغى النفس الثوري على مشاهد العمل، خصوصاً لجهة الإضاءة على عمل خلايا المقاومة المنظّمة في الخليل، مع المرور على العمليات الفردية من طعن وزرع للعبوات وإطلاقٍ للنار على العدوّ. اللافت هنا أنّ «الفدائي» وضع الهوّيات الحزبية جانباً وغابت أعلام ورايات الفصائل، لصالح الكوفية والراية الفلسطينيتيَن.
كما أنّ المثير للإعجاب في المسلسل أنّه لم يحيّد السياق الاجتماعي للقضايا التي يطرحها بعيداً عن السياقين السياسي والعسكري، محاولاً ترسيخ قناعات جديدة، من خلال تزويج ابنة عميل فلسطيني لأحد شباب الخليل مثلاً، فضلاً عن كسر الصورة النمطية المتعلّقة بأنّ الفقير والمسلم هما فقط من يلتحقان بالمقاومة. أمّا عن اللهجة الخليليّة، فحاول الطاقم إتقانها عبر الاستعانة بالأسير المحرّر نضال أبو شخيدم، والمبعد من الخليل إلى القطاع.