الصورة التي رسمها الصوت
عندما خرجَت فاطمة من غرفة العيادة إلى غرفة الاستقبال، وقفت عند منضدة السكرتيرة، وتمسّكت بالسطح الرخامي الأملس. كانت يداها تنزلقان، كما وعيها على مساحة القلب الأملس الذي تسطّح فجأة وصارَ ذا بُعدَين اثنين فقط.
مسحوقاً على بطاقة بيضاء، كان قلب فاطمة ينتشر على المطبوع الأسود، حيث صورة «إيكو» صوتية لكائن صغير في طور مراحل النمو الأولى.

شدّت فاطمة على الصورة بيدها اليمنى وبكت. ثمّ ابتعدت سريعاً عن أسئلة السكريتيرة وتنهّدات النسوة المنتظرات اللاتي حرّكهن الخوف والفضول، فوضعن أيديهن فوق بطونهن المدوّرة.
لاحقاً، ستعلّق فاطمة الصورة الأولى والأخيرة لطفلها على البراد مع رسومات طفولية ملونة لبيوت وأشجار وأشخاص، قامت بتنزيلها وطباعتها عن الانترنت. ما زالت تفكر كم كان غريباً أن يرسم الصوت صورة، مخترقاً بطنها، إلى الطفل الذي لم تره هي، وكم هو غريب أن الشكل الذي على البراد هو الدليل الوحيد على حياة... لم تخرج إلى الحياة.

الصورة التي رسمها الضوء

من المؤكّد أنّ الصورة التُقطَت ليلاً. سواد الخلفية وبريق «الفلاش» على جباه الرجال تزيدني يقيناً. الصورة بالأسود والأبيض، وسأضطر لوصف عناصرها بسرعة. الرجل القصير الذي في الوسط هو الجدّ. يده اليمنى المرفوعة في حركة راقصة تغطّي نصف مساحة وجهه وتكشف لنا فقط عن فمه الذي تتدلّى منه سيجارة. يده اليسرى وراء ظهره، ورجلاه مثنيّتان قليلاً. الرجال حوله يلبسون زيّاً أشبه بلباس موحّد: سترة وبنطال أسود مع قميص أبيض وربطات عنق رفيعة، ما عدا اثنين استغنوا عن «كرافاتاتهم». جميعهم واقفون كتفاً إلى كتف في نصف دائرة حوله، يصفّقون ويضحكون. أحدهم التصقت كفّاه ببعضهما البعض، وآخر ما زالت يداه متباعدتان في استعداد للتصفيق، وآخر علق كفّاه في منتصف الطريق إلى فرقعة التصفيق. جمّدتهم الكاميرا هكذا بحالاتهم غير المتزامنة تماماً. يبدو أن مصوّرهم لم يكن جيّداً جداً، إذ أن أعلى رؤوس الرجال التصقت بالإطار العلوي للصورة حتى اقتُطِع جزء منها. في يمين الصورة، تظهر امرأة وحيدة في لوحة الذكور هذه، مديرة ظهرها إلينا، بفستان مقلّم ومنديل فاتح. يبدو أنها تراقص رجلاً. وفي أقصى اليمين أيضاً، صبي صغير بقميص أبيض، نصفه خارج الإطار وعينه التي في الإطار تنظر مباشرة إلى العدسة... إلينا. لا بد أن الصورة من الستينيات. الآن ننتقل بين المواد المصوّرة بطريقة مختلفة، ولا شيء يثير اهتمامنا. الصورة الجميلة تحظى بنقرة إعجاب، وهذا كاف. لكن حقّاً، من هؤلاء؟ لماذا هم متأنقون؟ هل الصبي الذي في الزاوية حزين أو مُهمَل؟ هل يمسك شيئاً باليد التي خارج الإطار؟ والأهم من ذلك كلّه، كيف السبيل إلى معرفة رائحة ذلك المكان؟

الزمن الذي في الصورة

يحكي الشاعر الإيطالي تونينو غويرا عن ذاتِ نزهةٍ في قرية صغيرة بآسيا الوسطى، حيث كان مع المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، في بحثٍ عن مواقع تصوير. حينذاك، أهدى تاركوفسكي إحدى صور البولارويد الفورية التي أخذها هناك إلى رجال مسنين كان قد التقطها لهم. فحدّق أحدهم بها، ثمّ سأل مدهوشاً «لماذا توقِف الزمن؟»
جزء صغير من الزمان والمكان مجمّد ومؤطّر تماماً، في جارور مكتبك، في جيبك، في الألبومات العتيقة، أو على الحائط. إذا انتبهنا إلى هذه الحقيقة البسيطة، تصبح الصورة فجأة ثقيلةً بشكل لا يُحتمل. تصبح مصدراً لتوتّر داخلي غامض، كأن كل عناصرها تشدّ باتجاه فهم معيّن لتلك اللحظة المأسورة إلى الأبد. هل الصورة خيانة للذاكرة؟ هل هي شيء أقل من الواقع أو أكثر منه؟ كيف تلتقط ببساطة ما لا يمكن للّغّة التقاطه؟ دوار الصور عنيف أكثر ممّا ينبغي.
اهرب من الصورة، إنها تحرق وجهك. أو لا تهرب، ابقَ واحترق واكبر لتخبر قصصاً كثيرة.