ملاك خالد *نهيئ، نحن البنات، لصورة شبه خيالية عن الأمومة. صورة وردية تعيدنا إلى طفولتنا التي كنا نهتم فيها بالدمى اللطيفة. حتى حين نعلم أننا صرنا قاب قوسين من الإنجاب، نقرأ كتباً فيها الكثير من الإرشادات والتجارب، التي نظن أنها لن تحدث لنا. نشتري ثياباً صغيرة مذهلة في دقة تفاصيلها، ننسّق ألوان غرفة الوليد المنتظر، ونحضّر لائحة طويلة عريضة بما نتمناه من هدايا.

هذه الجوانب الجميلة والممتعة في مرحلة الاستعداد، لا تشبه بشيء ما سنعيشه بعد الولادة.
يأتي الطفل، لنكتشف أن الأمومة مرتبطة بقلة النوم، الأعصاب التي على شفير الانهيار، التوتر غير المفهوم، والكثير من الاستفراغ. نتحوّل، نحن الأمهات (الجديدات) بسرعة قياسية إلى قلوب كبيرة، لها عينان ويدان ودموع كثيرة، من دون أن يهيّئنا أحد يهيئنا لمثل هذه الأمور. كلّ ما قالوه لي قبل استحقاق ولادتي: «نامي قد ما بتقدري... لن تحصلي على هذه الفرص لاحقاً».
لم يخبرني أحد عن دوامة المشاعر التي سأختبرها يومياً، مع كل مرة يفعل فيها الطفل شيئاً، أي شيء، لأول مرة:
صرت أماً لأول مرة، وعرفت معنى أن تهاب الأم الموقف، أن تقلق، وأن تتوتر.
عندما بكى طفلي أول مرة، رجف قلبي. وعندما توقف عن تناول الطعام أول مرة شعرت بالهلع. وعندما تقيأ أول مرة، أردت أن أركض به إلى الطبيب. كلّ ما تعلّمته كمختصة في تربية الطفل، وخبرته كمعلمة، تلاشى من رأسي حين صرت أماً.
الأيام الأولى كانت الأصعب. انهرت كثيراً، وبكيت انهاراً من الانفعالات. baby blues أو أعراض ما بعد الولادة. هكذا شخّص طبيبي ما أمرّ به، شارحاً عن عاصفة هرمونات مجنونة تستبيحني بعدما فقدت تفكيري المنطقي لوهلة. كيف يمكن لكائن صغير ومعتمد عليّ بالكامل ان يفعل هذا بي؟ كنت أشعر بانكشاف وبهشاشة لم أتخيلهما يوماً من صفاتي. وددت لو أن طفلي، الذي هزّني من الداخل، أتى لي معه بكتيّب تعليمات لأعرف كيف أتعامل مع هذه التحولات التي طرأت عليّ. لأجيب على التساؤلات «الوجودية» التي بدأت أطرحها على نفسي.
لا أقصد هنا ما كتب عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ولا الأسئلة المتعلقة بما سأفعله مع عائلتي في حال اندلعت حرب. أقصد أشياء يومية وبسيطة وعادية ربما من قبيل: متى سيكبر ابني؟ متى سيزيد وزنه؟ هل ستناسبه ثيابه؟ متى سأنام ليلي متواصلاً؟ هل يكتفي بالرضاعة الطبيعية؟ متى سأستعيد شكل جسدي؟ كيف سأتركه وأعود الى العمل؟ هل يجب أن أبقى معه؟ هل انا ام صالحة؟ السؤال الأخير وجودي اكثر مما كان سارتر وديكارت والغزالي ليتخيلوا مجتمعين!
كيف افهم انا المرهقة من الولادة، والنهمة للراحة، هذا الطفل المدجّج بصوت أكبر منه الذي يريد اشياءً فيبكي وأبكي معه؟ أسئلة باتت خبز روحي اليومي ولا أجوبة عليها إلى أن مرض آزاد...
حين رأيت بياض عينه وقد تحوّل أصفراً، وبأن حركته خفّت، شعرت بأن العالم يتداعى. كنت خائفة أكثر من أي مرة في حياتي. ولو لم تكن أمي معي لتهاوى العالم. حينها أدركت معنى قلب الأم، فأنا أيضاً «ماما»، وعليّ اتخاذ القرارات مثل ما فعلت أمي معي، إنما لأجل طفلي انا هذه المرة.
«تربية طفل واحد تتطلب قبيلة». تذكرت هذا المثل الافريقي عندما مرض طفلي. استعنت بالقبيلة الرائعة من النساء حولي. قريبات وجارات وصديقات شكلن دائرة دعم تسند وتحضن وتقدم النصح والمحبة بلا شروط. زوجي واخواي كانوا أيضاً «بظهري»: فراس زوجي كان يستيقظ معنا. «يدشّي» ابننا، ويسمعه موسيقى ليتركني أنام قليلاً. وكثيراً ما ضبتطه يراقب نوم آزاد بحبّ لا مثيل له.
أخواي يسألان ويتابعان ويلاعبان ويصوّران. والقبيلة المذكورة أعلاه اتسعت لتضم زملاء عمل شاركونا تجاربهم أيضاً.
شيئاً فشيئاً، بدت الأمومة أمراً أسعد مما تخيلت سابقاً. أجمل حتى من تخيّلات الطفولة.
عندما ابتسم طفلي للمرة الأولى شعرت بأن قلبي، حرفياً، قفز من صدري. وبدأت أضحك بثقة على كل الأشياء الصغيرة التي كادت ان تودي بي في الأيام الأولى. صرت ماما يضحك ابنها لها، العالم بخير إذاً.
والآن... صرت أعرف معنى عبارة «الطفل حياة جديدة»، حتى لو بدت بديهية. والأكيد أنه حياة جديدة لكلّ من حوله، وليس لنفسه فقط. هو امتداد لبشرية مليئة بالتناقضات، وهو أيضاً غدها.
تربيته تتطلب استعادة ومراجعة موروثات ثقافية تناقلتها أجيال وصنعت حاضرنا.
أعي اليوم، وبالتجربة الشخصية، فرادة كل طفل وتميّزه. وأدرك بعمق ما يعنيه جلب طفل الى عالمنا. لكنني أقلّ توتراً، وأستمتع بكلّ قبلة وضحكة وصوت كأنها الأبد. أمامنا عمر كامل بعد أحب فيه طفلي، وأتعلم ان اكون أصلح أمّ له.

* كتبت هذا النص على مراحل بسبب صغيري الذي يكبر ويتعلم ويعفرت. كتبت وأنا أتمنى ان يقرأ كلماتي هذه يوماً، ليعرف أنه الاجمل والأغلى والأهم عندي.