يتسرّب الصوت رقيقاً من نافذة الصباح. كنوتة موسيقية عشوائية، يعلو ويخفت. يقترب ثم يبتعد. يحدث ذلك مراراً، قبل أن ينطفئ، ليعود الشارع بعده إلى غفوته. في تلك اللحظة الفائضة بسكونها، سيحلو لتلك الفتاة أن تطلّ برأسها من النافذة، لتعاين الصباح الذي بعثرت هدوءه «مقشّة» حسن. وسيحدث أن تراه في المكان نفسه، مسنداً رأسه إلى عربته الخضراء وضامّاً ركبتيه إلى صدره. يحمل في إحدى يديه سيجاره وفي اليد الأخرى، يبعثر الدخان الأبيض الذي ينفثه. يرسمه أشكالاً يستلّى بها في فترة استراحة اقتطعها لنفسه من يومٍ طويل سينتهي مع وصول عربة «سوكلين».
حسن، الشاب الذي صار جزءاً من صباح ذاك الحي، خرج من سوريا قبل ثلاث سنوات، ولم يعد. هناك، ترك كل شيء، وهرب من موتٍ أكيد... إلى هنا، حيث لا شيء. وبما أنه في وضع «لجوء»، كما يقول، فقد كان عليه القبول بأي عمل يسدّ الرمق. لا أكثر من ذلك ولا أقل. مرّ عام، ولمّا يجد الطريق إلى العمل الذي سيسدّ هذا الجوع. مع ذلك، كان عليه الانتظار. هذا الفعل الذي سيدوم عاماً ونصف قبل أن يصير «النوتة».
هنا، في الحي الذي صار حسن جزءاً من صورته، ينادونه «الزبّال»، أو في أحسن الأحوال «سوكلين». لا يعرفونه باسمه.

في كل مرة، سيجول فيها حسن على مداخل البيوت، سيملأ عربته لا محالة. يضطر في أحيان كثيرة لإفراغها قبل أن ينتهي من جولته. أما عما يجده هناك؟
وهم أصلاً بغنى عن هذه المعرفة، فحسن، في عرف هؤلاء، هو هذه الصورة: واحد، بلا اسم. تلك الصورة التي يرفقونها عادة بالزي الأخضر والكيس و»اللقاطة». لا يعرفون مثلاً بأنه مجاز بـ»الهندسة المدنية»... ولكنه نسي شهادته هناك في بلد الحرب الدائرة. لا يهمهم بطبيعة الحال. فهم اعتادوا صورته على هذه الشاكلة. ولكن، ماذا عن صورتهم فيه؟ هل سأل أحد مثلاً عنها؟ وكيف «يفرزهم» عامل النظافة؟
فلنبدأ قصة حسن من أولها. عند الساعة الخامسة صباحاً، يخرج الشاب من «الكامب». يستقل الباص بألف ليرة كي يصل إلى الحي ليبدأ جولته الساعة الخامسة والنصف صباحاً، والتي لا تنتهي قبل الخامسة والنصف مساء. عشر ساعات سيجوب خلالها الشاب «القاطع» الموكل إليه، والذي بالكاد يبلغ أربعة كيلومترات مربعة، «سبع مرّات»، على ما يقول. وفي كل مرّة «أجد أنواعاً جديدة من النفايات»، ويتابع ساخراً «تخيلوا الحي إن غبت». إذا افترضنا أن الشاب يقضي كل يوم عشر ساعات في قاطعه، فهذا يعني أنه ينظف المكان ذاته مرة واحدة على الأقل خلال ساعتين. ولكم أن تتخيلوا كم عربة يجمع الشاب من هناك في تلك الجولات. على «هوى» ذاكرته التي لا تستوعب هذا الكم، يجمع ما بين «9 إلى 12 عربة في اليوم الواحد». أي 270 عربة شهرياً، بحسب المعدل الأدنى. بتفصيل أكثر، يجمع الرجل 270 عربة في 300 ساعة عمل. ولو أخذنا المعدل الأقصى، لكان «سكّر السكور».
في كل مرة، سيجول فيها حسن على مداخل البيوت، سيملأ عربته لا محالة. يضطر في أحيان كثيرة لإفراغها قبل أن ينتهي من جولته. أما عما يجده هناك؟ فيجيب مبتسماً «كل شيء: أكل. ورق. سواكير وكتير خبز». يستغرب الشاب لأنواع النفايات المرمية، ويقول «في سوريا مثلاً، في شوارعنا قد تجدين أعقاب سجائر، لا أكثر من ذلك، أما هنا فكل شيء وارد، يعني مطبخ برّاني، برغم أنه كل أربع بنايات عندهم حاوية لرمي النفايات». وهذه قمة الاستغراب أصلاً.

في الشارع «الكلاس»، يجمع ما بين «6 إلى 9 عربات». وغالباً ما يلملم الأوساخ من جانب سلة المهملات «ما حدا حطّ سلّة»
لهذا، ربما، صار حسن قادراً على «فرز» نساء الحي. فمثلاً، «أحياناً كثيرة أشعر بحاجة لأن أطرق الباب وأخبر صاحبته بأنني سئمت من وسخها»... وأخريات أيضاً. فعامان من العمل، ربما، صارا كافيين ليعرف حسن كل واحدة منهن «إذ يكفي أن أرى مداخل البيوت»، يقول.
في الإجمال، هناك «البيت النظيف والآخر الوسخ»، هذا هو رأيه. أما رأي مالاغو الذي يعمل في شارع الحمرا 16 ساعة متواصلة، فإن «اللبناني بالإجمال وسخ». فهنا، في الشارع «الكلاس»، يجمع ما بين «6 إلى 9 عربات». وغالباً ما يلملم الأوساخ من جانب سلة المهملات «ما حدا حطّ سلّة»، يقول بلكنة ضائعة بين بلدين. وهذه قمة «الوساخة». وأكثر ما «يجنيه» مالاغو في كيسه الأخضر «سواكير وفناجين قهوة وورق سوندويش». أما في الليل، فثمة أشياء أخرى يلتقطها مالاغو، أكثرها الزجاج المكسور. ويقول «كتير بيرا كسّر هون». بعد سنوات من التجوال، اعتاد الثلاثيني أن يجد كل شيء. تماماً كما موكايّا. الآخر الذي يعمل على الطريق الواصل بين منطقتي البربير وبشارة الخوري. أكثر ما يزعجه أن العابرين في سياراتهم يرمون نفاياتهم أمامه، برغم من وجود حاويات على أعمدة الإنارة. يقول موكايا «الناس هون هيك، ما حب كب سلّة»، على عكس ما هم عليه الناس في الهند، في أحيائها الفقيرة التي اتى منها موكايا. فهناك «في سلّة متل هون، كب فيا مش أرض». أما هنا، فـ»كبّ أرض». ويسأل مستغرباً «ليش؟».... وأنا بدوري أسأل: ليش؟ تستعصي الإجابة عن سؤال كهذا، فلربما علينا سؤال معالج نفسي ليحلّ تلك العلاقة المأزومة بين الناس وسلة المهملات.


(تصميم رشأ الشوفي) للصورة المكبرة أنقر هنا