تتزاحم ألوان المواسم الزراعية، وتتشارك في ما بينها لرسم لوحات طبيعة خلابة على امتداد حقول وسهول بلاد بعلبك ـ الهرمل. تمتزج ألوان الأبيض والأحمر بهدوء بين زهر بساتين الأشجار المثمرة من لوز ومشمش ودرّاق، وتنساب متماوجة مع أخضر حقول القمح والشعير والبطاطا، وأبيض ثلوج صنين والقرنة السوداء وجبل الشيخ، وزرقة سماء البقاع الصافية.
لكن بين كلّ تلك العيون ثمة من يرقب تلك الحقول وألوانها بمزيج من مشاعر القلق والخوف، وشيء من التفاؤل. فعيون المزارعين من أصحاب تلك الحقول والبساتين سواء في سهول القرى البقاعية أو في سفوح وشُعب جرود السلسلتين الشرقية والغربية، ترصد حركة السحب في السماء وحبيبات ندى الصباح ومدى قساوتها. هم يتلمّسون البرد والصقيع وحبّات المطر، وأخبار العواصف الثلجية التي قد تطيح بكل المواسم «الواعدة بالخيرات».
المزارعون البقاعيون انهمكوا على مدى الأيام الماضية، وقبل تفتّح أزهار بساتينهم وبراعمها في أعمال تشحيل الأشجار المثمرة وكروم العنب، ورشّ السماد والأدوية الزراعية، في خطوة استباقية منهم لموجة الأمطار الموعودة خلال الأيام المقبلة. يدركون جيداً أن مربعانية الشتاء وبردها انتهت، وأن الفترة التي يسمونها «السعود» قد انتهى منها ما يعرف بـ«سعد دبح» (يذبح من شدة برودته)، و«سعد بلع» (يبلع مياه الأمطار والثلوج)، ولا زال «سعد السعود» (الذي نعيش أيامه الأخيرة) ومن ثم «سعد الخبايا».
ووفق المقولة الشعبية «إذا طلع سعد السعود لانت الجلود وذاب كل جمود واخضرّ كلّ عود وانتشر كل مصرود وكُره في الشمس القعود»، كما يقول أحمد حمية أحد المزارعين. يبشّر الرجل الستيني بمواسم خير وإنتاج وفير «إذا الله أراد»، ويشير بخبرته الطويلة إلى «النسبة المرتفعة في تفتيح براعم وأزهار الأشجار المثمرة وإلى ارتفاع مستوى حقول القمح والشعير». يعزو حمية ذلك الخير والوفرة في المواسم إلى التربة التي اكتسبت كمية وافرة من المياه بعد الهطولات المطرية الوافرة، وإلى العواصف الثلجية المتلاحقة طوال شهرَيْ كانون الثاني وشهر شباط، وإلى الدفء الذي نالته الأشجار على مدى أيام «المستقرضات» (آخر أربعة أيام من شهر شباط وأول ثلاثة ايام من شهر آذار)، «التي يفترض أن تكون باردة وقاسية، لكنها جاءت بارتفاع في درجات الحرارة، واستمرت حتى يوم أمس، حيث نترقّب كمزارعين الأمطار التي يرجح أن تنهمر على مدى أيام الأسبوع المتبقية».
يشارك المزارع علي حسن قاسم زميله في الإشارة إلى أن القلق لدى سائر أصحاب بساتين الأشجار المثمرة، يعود إلى تخوفهم من أية عاصفة ثلجية أو موجة صقيع قد تطيح بالمواسم «كما حصل العام الماضي مع موجة الصقيع الأسود الذي لم يسمح بأي إنتاج للأشجار المثمرة من اللوز للمشمش والجوز وحتى الزيتون، في الوقت الذي لا نجد فيه دولة تدعمنا ولا تعوّض علينا إذا أصبنا بانتكاسة أو خسارة».
طارق الموسوي، المهندس الزراعي في مؤسسة جهاد البناء، أوضح لـ«الأخبار» أن «التقلبات المناخية التي تحصل بين آذار ونيسان هي الأخطر بالنسبة للمواسم الزراعية، فقد ترتفع درجات الحرارة لتصل إلى حد 28 درجة، وتساعد في التفتّح السريع للبراعم الخضرية والثمرية، وفي الوقت نفسه قد تتدنى لتصل حد 4 تحت الصفر فتتلف سائر المزروعات وبخاصة الأشجار المثمرة، كما قد نشهد ما يسمى الصقيع الشامل (الرياح الشمالية)، والصقيع الشعاعي (تتدنى درجات الحرارة عند الفجر بعد جلاء السحاب)». إلا أن اللافت أن لدى النباتات والأشجار المثمرة قدرات متفاوتة على مواجهة الصقيع والبرد، ويشير الموسوي إلى أن «البراعم الزهرية لأشجار اللوز والكرز لا تتحمّل تدني درجات الحرارة أكثر من 2 تحت الصفر في فترة الإزهار، ودرجة واحدة تحت الصفر بعد العقد (تكوّن حبة الثمر). أما أشجار التفاح فيجب أن لا تتدنى الحرارة عن 7 درجات فوق الصفر في فترة تفتيح أزهارها وبراعمها».
لا ينفي الموسوي إمكانية أن تشهد المنطقة موجة من «الصقيع الأسود والذي تتدنى درجات الحرارة فيه فجراً بشكل كبير، فيفتك بالأشجار عموماً ويحرق ثمارها إلى أوراقها، وقد شهدنا هذا الصقيع الربيع الفائت من العام المنصرم ما أدى إلى موت آلاف النصوب من الأشجار المثمرة ومن بينها الجوز والزيتون واللوز والكرز».
ماذا عن وسائل الحماية التي يمكن أن تقي المزارعين البقاعيين مخاطر الصقيع وتدني درجات الحرارة؟
سؤال يتردّد عند غالبية مزارعي البقاع. لا يتوانى الموسوي عن الإجابة، فيؤكد أن «مصدّات الصقيع والرياح، مثل إقامة سور من الأشجار الحرجية حول البساتين، تفيد في مواجهة الصقيع الشعاعي، في حين أن تركيب المراوح الأفقية تحبس الهواء الدافئ في البساتين، وإشعال العشب الأخضر يساهم في تكوين دخان دافئ على شكل ضباب لحبس الحرارة، وإلا استخدام البخاخات لرش المزروعات خصوصاً وأن المياه تعطي حرارتها للمياه خلال تجمّدها».