في سالف العصر والأوان وجد «بنو تغلب» عند قدومهم إلى المدينة معبداً آراميّاً قديماً كان مكرّساً لعبادة الشّمس، فشيّدوا مكانه كنيسة مسيحيّة، وديراً وفندقاً للغرباء. أطلق «بنو تغلب» اسم يونا (يوحنّا) على الكنيسة، لكن المجمّع كان يسمّى بالآراميّة «دومة» أي الكاتدرائيّة... واستمرّ هذا الاسم في السجلّات الرسميّة وبين عامة الناس حتى اليوم.
الاسم ذاته أي «دومة»، كتبه الرحالة والشاعر ياقوت الحموي بخط يده في «معجم البلاد» لكنه لم يكن يعرف بأن التاريخ سيعيد كتابة دوما القرن الواحد والعشرين بحروف من دماء. ويدفن أطفالها تحت ركام الحرب المسعورة!
دوما التي تبعد حوالى 9 كم عن دمشق
كانت تعتبر المدينة الأكثر تنظيماً ورقياً من العاصمة ذاتها


بحسب كتاب «تهذيب ابن عساكر» للعلامة عبد القادر بدران فإن أول من سكن المدينة الريفية هم المسيحيون السيباط، وهم من بني تغلب القيسيّين، وفي القرن الثاني عشر الميلادي تقول المعلومات بأن التغالبة دخلوا الإسلام وقاموا عام 1136 بتحويل الكنيسة إلى مسجد، لتعيد وزارة الأوقاف السورية بناءه من جديد ليعرف باسم «الجامع الكبير» الذي قصف يوم 7 تشرين الثاني 2012 بحسب ناشطي الثورة وتحول إلى رماد محترق مثل غالبية المدن المنكوبة.
دوما التي تبعد حوالى 9 كم عن دمشق كانت تعتبر المدينة الأكثر تنظيماً ورقياً من العاصمة ذاتها، ومع ذلك لم يتوان أشخاص عن التحريض ضدّها. يعرف طريق دوما جيداً كل من أدمن على «لحم الجمل» الذي تشتهر المدينة بمطاعمه الخاصة، الطريق إلى «عاصمة ريف دمشق» يبدأ من طريق حرستا الرئيسي ولا بد للمشوار أن يمر بأشجار دائمة الخضرة تصطف على جوانب الشارع اللافت بنظافته، حتى نصل بعدها إلى مفترق طرق أحدها يؤدي إلى الشيفونية ومسرابا، والآخر يؤدي إلى دوما. بعد ذلك سنمر من دوار «الجرة» وبناء «نقابة المهندسين- فرع ريف دمشق» لنصل إلى طريقين هما أكثر ما يميزان دوما: «الكورنيش» و«القوتلي». ننطلق إليهما من نقطة علامة شهيرة كانت بمثابة صرح طبي خسرته سوريا سريعاً بعد تحول الحراك إلى مواجهات مسلحة وهو «مشفى النور». يلتقي الشارعان الشهيران مجدداً في نقطة واحدة هي منطقة السوق التي تضم «الجامع الكبير» و تمتد حتى «سجن النساء» هناك تتفرع الأزقة الضيقة ليختص كل واحد منها بمحال من نوع معين، أحدها للموبيليا، والآخر للأدوات المنزلية، والثالث للمفروشات.
الرحلة إلى المدينة تمر بأبهى حالاتها وتعرّج إلى التظاهرات الأولى التي انطلقت من هناك مع اشتعال فتيل الثورة السورية

أما على مرمى حجر من «الجامع الكبير» فسنجد شارعاً يختص بـ«لحم الجمل» تتوزع على طرفيه محال ومطاعم تتنافس في تقديم وجبات من لحم الجمل، وهو ما كان يميز المدينة إضافة إلى «سوق الفقير» أو «سوق الجمعة» الذي تعتمد بضاعته الرئيسة على تصفيات المحال الكبرى لتباع بأسعار زهيدة تناسب الطبقة المسحوقة التي كانت تمثل نسبة كبيرة من الشعب السوري. إلى جانب ذلك كانت العطلة الانتصافية فسحة لتظاهرة سنوية تعرف باسم «مهرجان الربيع» تقام بقصد التسوق وإطلاق نشاطات تناسب الأطفال. الأطفال الذين ماتوا في المجزرة.
الرحلة إلى المدينة تمر بأبهى حالاتها وتعرّج إلى التظاهرات الأولى التي انطلقت من هناك مع اشتعال فتيل «الثورة السورية» لتتوقف الصورة عند فيديو صادم تناقلته أخيراً المحطات ومواقع التواصل الاجتماعي وهو لرجل فقد عائلته تحت ركام منزله بعد أن قصفه الطيران، ولم يعد يملك من أمره شيئاً سوى النحيب على موتهم أمام عينيه. لو قدر للرجل أن يرفع ركام الأبنية المتهالكة عن جثامين أطفاله وزوجته لوجد بالقرب منهم كل ما تكلمنا عنه. فدوما «مدينة الشمس» تدفن اليوم تحت الأنقاض.