كان يوم سبت في تموز ٢٠١٣. زيارة يومٍ واحد إلى دمشق، لأسبابٍ عاطفية. عادة الطرقات تكون سهلةً في أيام العطلة. لكنه ليس السبب الذي حدد موعد الزيارة. حددت صديقتي توقيت الزيارة، في اليوم الذي تستطيع فيه ان تصل الى العاصمة وتعود الى بيتها بأسرع وقتٍ ممكن قبل حلول العصر. فالطريق باتت طويلة، عقب امتناع كثيرين عن العبور إلى دمشق، عبر أوتوستراد حرستا بسبب «القنص» الذي كان يأتي من مقاتلين معارضين.
على المقلب الآخر من الحدود، وباستثناء حاجز «الفرقة الرابعة»، الذي يفتش كل السيارات، الطرقات إلى قلب دمشق، سلسة. تتراءى عن بعد مروحيتان تتجهان نحو الريف القريب. تخرق أصوات المدفعية الهدوء. كالماء والزيت، تتلاصق أصوات المعارك في الريف القريب مع ضجة المدينة.
يطول الانتظار أمام ساحة باب توما. تغطي الشعارات السياسية والصور العسكرية وأوراق النعي، جزءاً وازناً من المشهد. الزمن المستقطع قبل وصولها، مساحة وافية للاقتناع بأن الجميلات هن الدمشقيات أيضاً. كانت صديقتي تحفظ خريطة الشوارع الضيقة في باب توما وكأنها في بيتها. ندخل مطعماً شامياً عتيقاً، فيستسمحنا النادل بالانتظار قليلاً لترتيب طاولة «مبارح كان عرس وعجقة». لا يخرق صوت فيروز في حارات الشام القديمة سوى هدير الطيران العابر. ككرتين صغيرتين تتدحرجان في الشوارع القديمة، مشينا بسرعة، وهنا يكبس ضيق الشوارع السيارات بالمارة، الأرصفة قليلة بعد عبور باب توما.
جولة قصيرة في دمشق، لا تشبه الجولات التي اعتدنا عليها قبل الحرب. كان مسارها معروفاً: المصنع، فمقام السيدة زينب، سوق الحميدية، فحلويات الحيدري في جديدة يابوس الحدودية، وصولاً الى بيروت. قلّما كانت الشام القديمة وجهة القادمين من لبنان، اللهم إلا قليلاً منهم، ولم تكن عائلتي منهم. في طريق العودة إلى بيروت، أنتظر صديقاً، لكنه تأخر بسبب جنازةٍ في شارع بغداد، لسكانٍ ماتوا بقذائف هاون. في جعبتي ما أريد له أن يبقى أقوى من الموت. لقد عرفتني فتاة بشرتها بيضاء، شعرها أسود، عيناها خضراوان، على دمشق القديمة. أنا مدين لها.

■ ■ ■


لم تعد زيارة دمشق ضرباً من النزهة. يملك كل من يزور العاصمة السورية اليوم، دوافعه التي تبرر له محاباة «الخطر». هذا الشعور بالقلق يتبدد جزئياً، عندما نصل إلى أوتوستراد المزة في الزيارة الثانية. كانت في كانون الثاني 2014. الأشهر الستة السابقة شهدت معارك ضارية في داريا ومصالحات في المعضمية وحي برزة، باتت العاصمة أكثر هدوءاً، لكن معالم الحرب موجودة. «قاسيون» الجبل ممنوع عن الراغبين في هوائه. تبدو المدافع المتمركزة على قمته، كالجبل فوق صدر الجبل. لكن العاصمة هادئة، حركة السير والبيع منتظمة. تكتشف سريعاً أن ما يحكى في معظم الإعلام عن دمشق، أخبار ليست دمشقية بمعظمها. لا يعني ذلك أن المدينة تعيش أجمل أيامها. فالحواجز المنتشرة على طول الحدود اللبنانية السورية وفي مفاصل المدينة، توضح للقادمين أنهم يدخلون بلداً صار مأزوماً. لكن، حتى لو امتلأت الأسواق القديمة والمستحدثة، وكانت الجامعات مليئةً بالطلاب، يبدو واضحاً أن الحديث عن عاصمة الأمويين بلغة الموت الدائم، هو قرار سياسي، وليس انعكاساً للواقع بمختلف وجوهه.

■ ■ ■


طريق المطار باتت آمنة نسبياً، التوجه إلى منطقة السيدة زينب لم يعد يحتاج إلى سلوك طرقات عسكرية، كما درجت العادة حين بدأت معارك ريف دمشق الجنوبي، ولا سيما بمحيط منطقة المقام. على جانبي الطريق، بدا المشهد مؤلماً. قرى تشبه امرأة جميلةً وجهها تهشم بعد أن ضرب بالحديد. شبعا ودير العصافير وغيرها. تتقابل جرمانا والمليحة، القصف بالقصف. دخولاً إلى منطقة المقام، حواجز لـ«اللجان الشعبية»، تبرز دشمة زيتية خفيفة الظل كتب عليها «لا للطائفية، لا لآل سعود». كلما تقدمنا نحو المقام بدا نفوذ حزب الله أكبر.
المنطق الذي يسري هناك هو التالي: كيف يجري انتقاد من يأتي للدفاع عن مقامٍ يعتبره مقدساً، بينما يجري التغاضي عن الذين تناسوا كل ما رفعوه من شعاراتٍ سياسية وسلمية، وبلغة أوضح، تركوا معركتهم ضد النظام السوري، وبات هدفهم تدمير مقام، يمكن له إن حصل، أن يهدر دماءً عابرةً للحدود السورية. ثمة مقاتلون، لا يعرفهم كل الناس، منعوا فتنةً إقليمية من التمدد، وحين تسألهم عن الانتقادات الموجهة لسلوكهم بوصفه مذهبياً «نحن نمنع الفتنة ان تمتد، وليقولوا ما شاؤوا». للمناسبة، تعزز هذا المنطق أكثر، مع سكوت الكثيرين ممن هاجموا تدخل حزب الله، على دخول الجيش التركي لنقل رفات جد مؤسس السلطنة العثمانية في شمال سوريا.
وصلت المعارك إلى الحدود الأمامية للمقام، فمن الشارع الذي يقع فيه فندق السفير، تفرعت المعارك. حجيرة وما يقع خلفها من قرى، فارغة من السكان. فارغة من كل شيء، تبدو آثار معركة طاحنة. طرقات كثيرة في منطقة السيدة زينب مهشمة، ولم يجر إصلاحها بعد المعارك، شوارع ملاصقة للقتال أقفلت تماماً. آلاف الطلقات الفارغة تختبئ بين الحجارة الهابطة أرضاً. يختلف المشهد داخل المقام. مقاتلون عراقيون ولبنانيون وسوريون، جلهم يرتدي بذلة «قوة التدخل» في حزب الله. بدأ الحضور في تلك الفترة يتكثف، بالرغم من عدم إعلان المنطقة آمنة حينها. ترتفع صور لمقاتلين من حزب الله، وتبرز صورة للشهيد علي شبيب محمود العروف بـ«أبي تراب». يتحدث رفاقه كيف أصيب خلال المعركة، وكم كان نشاطه الميداني مؤثراً فيهم. إنمائياً، ما زالت منطقة المقام على حالها، مهملةً كحزام بؤس، زادت الحرب بؤسه، والإصلاح مؤجل إلى ما بعد الحرب.

■ ■ ■


الثامن من أيار 2014 كان يوماً ماطراً في بيروت ودمشق. بدأت رحلة تغطية صحافية استباقاً للانتخابات الرئاسية السورية. كانت صور المرشحين حسان النوري وماهر حجار مبعث فكاهة. النتيجة معروفة سلفاً، وهذا ما كان مادة طرائف في أوساط أنصار الرئيس السوري بشار الأسد، أو مؤيدي «منافسيه». عند بداية أوتوستراد المزة، ما زالت سيارتا «هامر» الموشومتان بالعلم السوري وصور الأسد، على عهدهما منذ بدأت الأزمة والمسيرات المؤيدة للنظام، مقابل تظاهرات المطالبين برحيله. ينتظر السائق دوره أمام «الكازية» لملء سيارته بالوقود. زحمة تغلق فم الشارع، وليس للانتظار بديل سوى العودة بلا بنزين. تأقلم الدمشقيون مع أزمتهم، أثرياؤها وفقراؤها، وما بينهم الطبقة المتوسطة التي أنعشت المقاهي المتناثرة على الجهة الجنوبية من أوتوستراد المزة. انهمار قذائف الهاون على أحياء دمشق القديمة، ولا سيما من حي جوبر، أنعش حركة مقاهي المزة ومطاعمها. لكنها مصطنعة، والأكيد، أنها في عيون السوريين على خلافاتهم، لا تضاهي جمالاً، حجراً من حجارة الشام القديمة. أول مدينة مأهولة في التاريخ، زرناها صباحاً، كان يوم جمعة، الأسواق مقفلة، كانت ممراً لمتسابقين بالدراجات الهوائية، ممن أرادوا تحدي القصف على العاصمة، على طريقتهم. أبواب دمشق السبعة، يبرز منها باب توما وباب شرقي. الطريق المستقيم ومتفرعاته، دفاتر ذكريات للأدلاء السياحيين وأهل المنطقة. هنا مراحل العمر الذي زادته الأزمة مرارةً. في حديقة القشلة الصغيرة، ولدت الكثير من قصص الحب. هكذا، تبدأ دمشق القديمة تنثر عطفها كالمطر فوق وجهك، ويغريك تبلل وجهك بحنان أبنيتها المتلاصقة. شكوى تجار «الأنتيكا» في باب شرقي من انهيار السياحة، تبددها أصوات البيانو الخارجة من نوى كاليري في حفلة موسيقية، قادتها عازفة دائمة التبسم. اسمها روى، شبهت حياة دمشق بمفاتيح البيانو، بيضاء وسوداء، وبلكنةٍ دمشقية قح تمنت أن يعود اللحن الأبيض. ازداد الأمان في محيط المقام، في باحاته يلعب أطفال بانتظار انتهاء عبادات ذويهم. بات يستقبل الزوار إلى ساعات متأخرة من الليل. طعام دمشق ارتفع ثمنه، مازال لذيذاً.
حياة الأزمة في دمشق، قد تختصرها كثرة الدراجات الهوائية. «أمستردام الشرق»؟ دمشق كانت لتكون أجمل، لكنها الحرب. جامعيون وعمال يستقلونها هرباً من الزحمة قرب الحواجز. ثمة زحمة يومية أخرى توضح حجم الأزمة، قرب دائرة الهجرة والجوازات. الأسواق القديمة كالحميدية والبزورية، ينعجن زبائنها ببعضهم، بالرغم من انخفاض الحركة الشرائية. وحدها «بوظة بكداش» لم تتأثر، تطول صفوف زبائن «المحلاية» وبوظة «الدق». في حي الميدان وتحديداً منطقة الجزماتية المشهورة بصناعة الحلويات، باتت النزعة الطائفية تتحكم بالحركة التجارية. يمتنع أحد الحلوانيين عن الظهور على الكاميرا، مخافة تفسير حديثه عن الحلويات كشماتة بما يجري في مخيم اليرموك. تهديدات أرسلت بهذا الشأن، وهو سبب القلق الأساسي، إضافة إلى الرغبة في تهدئة الأمور، وهي سمة التجار عموماً. لكن يبقى في السوق من يستقبل الكاميرا، ليتحدث عن الحلويات. تبدو العلاقة ودية بين السوريين والكاميرا خلافاً لتصور مسبق. ومن لا يريد الحديث في أي شأن كان، يستخدم مصطلحاً موحداً «حبيبي والله ما خرج». كثر طلاب الأدوية العربية، ولا سيما للأمراض الخفيفة. انتعش سوق محال «دركل» الشهيرة من جديد. تمسك حواجز للجيش بمفاصل الطرق بين البزورية ومدحت باشا. يبدي عسكريو السوق وداً للأجانب، فيما يبدي العسكريون في حواجز المربع الأمني في العاصمة صرامةً في طلب الهويات والبطاقات وتفتيش السيارات.
أسبوعان في دمشق، سبقا بدء الانتخابات. يسير أنصار الأسد مسيراتهم، ويستعجبون من أسئلة كـ: ماذا تطلبون منه؟ لكن الإجابة موحدة: الأمان. لكن الأمان فقد في عهده: يجيبون بسرعة بأنه يحمي البلد من عدوان كبير وأنه الوحيد القادر على إعادته إلى ربوع سوريا، يقول مناصروه. لا يحبّون الحديث عن «حماس»، في تلك الآونة المونديال كان أكثر أهميةً، يريدون تناسي وجعهم اليومي.
كل غروب دمشقي، يمكن أن يطبع صورة في ذاكرة الزائر. اللقاءات قرب «قوس المريمية»، العشاء في النارنج (زهر الليمون)، التجول مع الأصدقاء في الحارات القديمة. هديل حمامات الأموي وحكايات مقهى النوفرة. يوميات مثل الحبر، تلتصق بالذاكرة. يستمر صوت الحرب، لكنه متقطع، وسينتهي يوماً ما. هذا ما يرويه التاريخ عن دمشق، أقدم عاصمة فيه.
(دمشق)