لا أذكر العام الذي بدأ خلاله بالصوم، فأنا شبه متأكدة من أنه لم يكن قاسياً على نفسه لهذه الدرجة أيام الصبا. كما أن حياته وسلوكه لا يدلان أبداً إلى أن هذا الرجل قد يكون ملتزماً دينياً. لامس هذا الرجل الخمسين من عمره منذ أشهر قليلة، متفوق في مهنته. دقيق وحازم وجدي. يضع نظارته الطبية ويفلفش بين تطبيقات هاتفه الذكي. يرتدي ثياباً عصرية، مولع بالرياضة ويمارسها يومياً للحفاظ على رشاقته. في مجتمعنا اليوم، هو شخص بعيد كل البعد عمن قد يلتزم بتعاليم الكنيسة خلال الصوم، إذ أن قسماً كبيراً من المسيحيين لم يعد يفعل ذلك. لكن الشغف الذي يبديه تجاه هذا الموضوع كبير جداً، حتى أن إلمامه بالتفاصيل جميعها أمر محيّر لعارفيه، وتمسكه بدينه وإيمانه يجعلانه مثالاً يُحتذى به.
سألته مرات عدة عن سبب هذا الالتزام الكبير بالتخلي عن جميع المأكولات التي تحرّمها الكنيسة في هذه الفترة لكنه لم يمدّني يوماً بجواب، إلى أن أتى ذاك اليوم. عقد حاجبيه كالعادة وقال: «أنا أصوم عن راحة نفس والدي»، لم ينطق بأي كلمة إضافية لكنه أوصل فكرته بوضوح لا مثيل له.

هذا الرجل العصري، الذي ركب أمواج المدينة وشقّ طريقه وسهر على تربية أسرته، يعيش حياة حديثة ومواكبة للتطورات، ولا يزال في الوقت نفسه يلتزم بقوانين الصوم بحذافيرها. ولشدة التزامه أصبح مثالاً بين أخوته وأقربائه، فيصفونه بالمؤمن الصالح، الذي لا يكسر صيامه حتى عندما يحاولون ممارسة الضغوط الكبيرة عليه من خلال دعوته إلى الولائم، فإما يلبي الدعوة ويختار ما يأكله بين الأطباق القليلة التي يمكن أن يتناولها أو يعتذر ويعدهم بوليمة أكبر بعد انتهاء زمن الصوم.
أما في المنزل، فلا يتناول أي مأكولات دون التأكد من محتوياتها، كتلك الليلة التي أرادت بها ابنته أن تشاركه بعض الحلوى التي كانت متأكدة من خلوّها من أي منتجات حيوانية، إلا أنه أجبرها على قراءة المحتويات بصوت عال حتى وصلت إلى الـ«جيلاتين البقري» فابتسمت معتذرة. أو ذلك العام الذي انتشر فيه، على جميع طرقات بيروت، إعلان الجبنة السائحة على رغيف خبز في بداية الصوم، فظلّ يشتهيها لمدة طويلة وعند انتهاء الفترة كانت هذه الجبنة أول ما تناوله وتلذّذ به، علماً أنه لا يبالي بهذا النوع تحديداً في الأيام العادية. ليلة العيد، يكون حاضراً في الكنيسة عند منتصف الليل، يتناول قرباناً ويذهب إلى المنزل لتناول حبة من المعمول المخصص للعيد.