هدأ الموج قليلاً قُبالة مقهى «الرّوْضة» في بيروت. خرَج «هواة النوع» إلى الرصيف بعد مُلازمة منازلهم لأيام. برَم دولاب «ملاهي بيروت» القريب وعَلا صوت بضعة أطفال، لكنّ الطّقس لايزال غائماً وبارداً. يقف الرَّجلُ في الوسَط كمَن يُمسِك بـ»جغرافيا» المقهى البيروتي العريق. ببزّته الكحليَّة النظيفة والقلم الذي يبدو كَوَرْدة في الجَيْب، يجُول بنظراته على الزبائن متنقّلاً بخطىً أنيقة بين طاولة وأُخرى. يوجِّه ملاحظة «عالماشي» لِنادلٍ حديث العهد بالمهنة، يُطلق نُكتة لِآخَر ويبتسم لزَبون قديم. وأخيراً يستضيف الرجل صديقاً له «على فنجان قهوة» خارج دوام العمل، ليكون هو الزبون هذه المرّة.
يدور حديث بين الحاضر والماضي تفوح منه رائحة البنّ والبَحر وتعَب أربعين عاماً من العمل في مهنة «نادل». لا يملك أبوحسين، صاحب القامة المربوعة، مواصفات غير عادية، لكنه «عميد» الندُل هنا و»المعلّم» الذي يدير العمل بحرفيّة و»شطارة». يحفظ زبائنه جيداً ويعرف أذواقهم وتربطه صداقات ببعضهم. علي طعمة، الفتى القادم من «عيتيت» الجنوبية (قضاء صُور) في ستّينيات القرن الماضي إلى «جنّة بيروت» بدأ حياته العملية من هذا المكان بالذات. لكنّه يُرجِع بدايته في عالم «الخدمة الفندقية» إلى يوم كان تلميذاً في المرحلة الابتدائية. «كنتُ أعمل في أشهر الصيف في خدمة توصيل الفول والحمص لعمّال مصانع الأحذية الأرمن في منطقة النبعة وبرج حمود لأدَّخر عشرين إلى ثلاثين ليرة... كانت أيام حلوة»!

القرية البيروتية

الحركة ناشطة في الجانب المسقوف من المقهى، فيما القسم الخارجي، الأكبر مساحة، خالٍ من الزبائن تماماً في توقيتٍ بين عاصفتيْن. حركة النُدُل والعاملين في أكثر من اتجاه. معظم هؤلاء من الجنسيّة السورية ويقيمون في غرف منامة مخصّصة لهم ويشاركهم أبو حسين المنامة في أوقات «المواسم». يُطلِق أبو حسين على المقهى الذي يتّسع لـ250 طاولة (الحد الأقصى) تسمية «القرية البيروتية». المقهى الذي أُنشأ في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي وتُعدّ أرضه تابعة لأملاك الدولة يديره «الأخوة شاتيلا» عبر آلية الاستثمار الطويل الأمد. يلفت أبو حسين إلى أنّ المقهى اكتسب شهرة إضافية بعد انتهاء الحرب الأهلية بسبب نقص المساحات الخضراء تدريجياً في بيروت، ولأنه حافظ على طابعه الريفي الهادئ. يقول الرجل: «أجرينا قبل مدة استفتاء بين الزبائن حول تحديث بعض الأجزاء من المقهى فكان هناك شبه إجماع على ضرورة إبقائه بحالته الراهنة. مقهى الروضة برأي ابو حسين «شعبي وغير شعبي في الوقت ذاته»، ذلك أن زبائنه هم من العائلات البيروتية ومن النخب الثقافية والسياسية والإعلامية والفنية. يقول: «أعرفُ بعض الزبائن الذين كانوا يأتون وهم شبّان إلى هنا، ما زالوا يأتون الآن ولكن مع عائلاتهم». يضيف: «أكثر من ذلك، نشأ بيننا وبين زبائننا نوع من الثقة فصار البعض يأتمننا على أغراض خاصة لأصدقائهم الذين سيمرّون لتسلمها في اليوم التالي»!
ينظر أبو حسين مطوّلاً ناحيةَ البحر. يقول إنه في أوقات الاستراحة ظُهراً يمارس هواية صيد السّمك. يتوقف قليلاً عن الكلام، ويبدو كمَن «يعصُر» ذاكرته التي تتداخل فيها صُوَر كثيرة. هنا (يشير إلى المساحة المحاذية للمقهى) صَوَّرَ المطرب محمد عبدو مشاهد من أغنيته الشهيرة «الأماكن»، لينتقل بعد ذلك إلى زمان من الماضي القريب: «في حرب تموز أحضرتُ عائلتي إلى هنا وقمنا بمساعدة النازحين»، لافتاً إلى أنه «خلال الحرب تحوّل المقهى إلى تجمّع لعدد كبير من مراسلي الصحف والوكالات ومحطات التلفزة الأجنبية». صوْت الانفجار الذي أودى بحياة النائب وليد عيدو على مسافة عشرات الأمتار من المقهى لا يزال حاضراً في رأسه إلى الآن. يروي أبو حسين أن المقهى في أيام اعتصام قوى الثامن من آذار الشهير (2007) في وسط البلد شهد حركة لافتة خصوصاً من سياسيين وصحافيين ينتمون للفريقيْن «الآذاريَّيْن». المضحك في الأمر، على حد قول الرجل، أنه بعد كل جولة صراخ ونقاش بين «الطرفين» كانوا يتنافسون فيما بينهم على مَن يدفع «الحساب» أولاً!

مهنة بقيمة مضافة

لا يتأخّر أبوحسين في طلب ركوة قهوة إضافية. يسرد النادل العتيق صُوَراً متفرقة من سيرته الحافلة. عمل في مراحل مختلفة في أوتيل «بيل مونت» في إهدن ايام الرئيس الراحل سليمان فرنجية. سافر إلى السعودية وعمل في مطاعم «الجوندول» اللبنانية في جدّة. مع ذلك لم «يقطع» الرجل مع «الروضة»، إذ ظلّ يتردّد بين وقت وآخر. يفخر أنه كان من بين الطاقم الأساسي الذي ساهم في انطلاقة «استراحة صور السياحية» في منتصف التسعينيات ويحفظ في شريط العمر الذهبي ذكرى جميلة من «فندق قادري الكبير» في زحلة. «هناك تقاضيتُ أغلى بقشيش في حياتي من الفنان العالمي الراحل ديمس روسوس بعد حفلة أقامها في الفندق البقاعي وكان قدرها ألفاً ومئتي دولار أميركي»!
«ولكن ألم تتعب يا رجُل»؟ بابتسامة رِضا يقول أبو حسين لسائله: «بعد بكّير». وعلى العكس مما يراه البعض أن مهنته فقدت مكانتها، يعتبر أبو حسين، الذي يحمل شهادات تقدير من عدد من البعثات التي عمل معها، أن مهنة النادل اكتسبت قيمة مضافة بعد التوجّه نحو التخصّص أكثر فأكثر في العقود الأخيرة. ألم تتراجع الإنتاجية عن السنوات السابقة؟ «طبعاً»، يقول: «ولكن هذه مسألة مرتبطة بمجمل الوضع الاقتصادي والأمني في البلد». لا يخفي أبو حسين أن هناك نوعاً من الحساسية الكامنة بين بعض «الوايتريّيه» (الندُل) المتخرّجين من معاهد مهنية وأولئك الذين لم يدخلوها إطلاقاً. ويسجّل مفارقة في كونه لم يتابع دراسته الأكاديمية والمهنية ولكنه مع ذلك قام، بحكم خبرته الواسعة، في إعطاء دروس تدريب لطلاب فندقية في صيدا على وظيفة «بارتندر» التي برع بها في وقت سابق.
بعد كل جولة صراخ بين الطرفين يتنافسان على دفع الحساب
وماذا عن العلاقة مع الزبون؟ «الوايتِر»، حسب تعريف أبو حسين، هو صلة الوصل بين الزبون والمطبخ. «أما دَوْري أنا (كرئيس قسم) فهو الربط بين الزبائن والعمّال والمطبخ. «ليست الابتسامة تفصيلاً، فهذا مبدأ أول في مهنتنا»، يقول الرجل مضيفاً: «المطلوب أن نستوعب كل أنواع الزبائن. النادل يجب أن يتمتع بشخصية ديناميكية ايضاً، وأن يكون أميناً ولا يُتسدرَج لأي حديث جانبي خارج إطار عمله». في النهاية، هناك نوع من العلاقة القائمة على الفائدة المتبادلة بين الطرفين. «البقشيش ليس تفصيلاً بالنسبة للنادل أيضاً»!
يقف كلٌّ من أبو حسين وضيفه الذي تساءل عن مغزى قرار منع التدخين في الأماكن العامة الذي لم تتشدّد الدولة في تطبيقه. يسيران خارجاً في المقهى ـ الحديقة حيث ثُبّتت لافتة صغيرة على الحائط تحذّر من استعمال الأولاد للكُرة. يسلّم أبوحسين على رجل أشعث الشّعر سرعان ما يعرّف عنه بأنه صديقه «البويجي» محمد الحراكي (نسبة إلى «الحراك» في درعا السورية). والحراكي يزاول مهنته منذ عقود هنا بإذن من أصحاب المقهى فيبدو كواحد من أفراد عائلة «الروضة». يصعد الرجلان إلى الترّاس العلويّ الذي يفتتح صيفاً فقط. يربّت النادل ابن الثانية والستين عاماً على كتف ضيفه مُحدّثاًَ إياه: «لعلّ الدرس الأكبر الذي تعلّمته في هذه المهنة هو أنه بالإمكان الجمع بين الطموح والقناعة. مَن قال إنهما نقيضان لا يلتقيان»؟