دمشق | أن نعيش عيد الحب، تحت وقع القذائف العشوائية، وضجيج الطيران الحربي، ومراقبة عدّاد الموتى، فنحن على موعدٍ مع فانتازيا باذخة، في توصيف ما لم يعد محسوساً، أو مدركاً، أو متاحاً. كان علينا أن نفحص ماكينة الكراهية وهي تطحن قمح البغضاء والضغينة وقلب الوحش، على هيئة فطيرة سورية مغطّسة بتوابل الخوف والثأر وحدّ السيف، في وجبة صباحية مكرّرة بالمذاق نفسه.
لكننا على ما يبدو جليّاً، لم نضجر من صناعة الكراهية بعد، أو لم نفقد شهيتنا تماماً في نهش الفريسة بزمرة دمها المضادة، فما كنّا نحسبه حقولاً من عباد الشمس، كما في لوحة لفان غوغ ، تكشّف عن فزّاعات، ومقابر جماعية، وأنفاق، وضحايا مجهولين. لا وقت للعناق، وبهجة النظر، ومعجم الأشواق، و»طوق الحمامة» إذاً: «كنت أفكّر بمشهد الجندي الاحتياط على دراجته النارية، وقد أصابته رصاصة قنّاص، قبل أن تصطدم الدرّاجة بحاجز إسمنتي، وتقع حقيبته على الأرض، وتتبعثر محتوياتها: هل كان يخبئ هديةً لحبيبته؟». الشوارع الخالية إلا من زمهرير صواريخ الكاتيوشا، وإعلانات «عيشها غير»، وتمارين رياضة الصباح على الشاشة الوطنية، لا تنبئ عن «فبراير» مختلف للسنة الخامسة على التوالي. الآن علينا أن نحتفل مع الموتى بصخب، فالأحمر متوفّر بغزارة، ولا حاجة بنا إلى الأصباغ الاصطناعية لتحويل الوردة البيضاء إلى وردة حمراء، كما كان يفعل باعة الورد، في العادة. أينما نظرت، ستجد لونكَ المفضّل، في الساحات، وردهات المشافي، وفوق أدراج الجامع الأموي، وعلى مقاعد سيارات الإسعاف، وشاشات الميديا، وبقايا الثلج في الجبال، وعربة الفاكهة تحت عمود الإنارة، وثياب الممرّضة في ورديتها الصباحية، وهناك أيضاً، المرأة الوحيدة على السطح، تختلط قهوتها بالدم، إثر سقوط قذيفة مباغتة، من دون أن تتمكّن من استنشاق هبوب رائحة الهال، في فنجانها الأخير.

يا لثراء عيد الحب هنا. نبيذ الآلهة يسيل في الطرقات، وقديسو الموت يوزّعون الأكفان عشوائياً، بما يليق بقيامة افتراضية، أو بتمرينات على الجحيم الدنيوي. لا حاجة بنا لقراءة دانتي، مرّة أخرى. هذا كوب من الشاي، أم دم ضحايا، كانوا ذاهبين إلى شؤونٍ أخرى، قبل الطعنة مباشرةً؟ أقول لنفسي، وأنا أراقب مرور سيارات الإسعاف من نافذة «مقهى الروضة»، وأفكّر بتلك التي غادرتْ مقعدها قبل قليل، بكامل هبوب شهوتها، إلى موقف باص الضواحي، على مقربة، من حريق في ساحة المرجة، بسمّاعة في أذنها اليسرى تبث موسيقى صاخبة، كي تعينها على ما تبقى من المسافة، ولقناعتها الأكيدة بأن «الحب مثل الحرب، يتمّ بمصاحبة الأغاني». كان عليّ أيضاً، أن أستعيد نصوصاً في إنشاء الحب، لإطاحة هذا الخراب، وتفكيك المجزرة المقيمة في الضلوع، وكانت «سافو»، الشاعرة الإغريقية الموغلة في الغياب، تنفضُ غبار النسيان عمّا كتبته قبل قرونٍ، لترميم عطب اللحظة «ما إن أراك، أشعر بين أوردتي بشعلة خفرة تجتاح جسدي/ ولفرط عذوبة الهذيان الذي تتوه فيه روحي، تخونني اللغات والأصوات». وبهتافٍ آخر «تعال أيها الحب/تعال واسكب في كؤوس الذهب الرحيق الذي ستقدّمه لضيوفك». وسوف تقتحم المشهد فروغ فرخزاد بكامل شهواتها «جسدي محموم من ملامسة يديك‏/ ضفيرتي تنحلّ بأنفاسك‏»، و»وراء تلك النافذة يرتجف الليل‏، والأرض تكف عن الدوران».‏
تكتب سوزان علي على صفحتها في فايسبوك «أنا درج بيتك المهجور، آخر شارع القصّاع، ألعق جلدي كل مساء، وأرطّب خطوة الصيف القديمة، عندما كانت تمشي بوردة قلبك البيضاء إلي»، و»الغابة تتحرك فوق جسدي/ كيف حال الوردة على صدرك؟
هل كبرت، وغطت شامة عنقك المرمرية؟ خذني إلى عتم كتفيك، أريد أن أنام». هناك فسحة للحبّ إذاً، في شارع القصّاع، الشارع الذي سجّل قبل قليل، سقوط قذيفة، وأنين امرأة في ردهة المشفى الفرنسي، كانت خارجة للتو من صالون لتزيين الشعر، وشظايا زجاج سيارة في ساحة جورج خوري، وطفلة في التاسعة تستيقظ من البنج بساقين مبتورتين. أصدقائي في حانة «شام محل» في باب شرقي، لا يتابعون ما يحدث على الشاشات. غارقون في رحيق «عرق الريّان» كأفضل علاج لتعطيل الذاكرة المدمّاة، يرمّمون حطامهم بوقائع ما قبل الحرب، وجماليات التسكّع حتى أذان الفجر. ينتظرون غزالات محبطات يعبرنّ سور «حديقة القشلة» بالمصادفة، لتخفيف وطأة العزلة، وارتفاع نسبة الكحول، والكآبة المزمنة، وخلوّ مفكرة «فبراير» من وجع العشق، وآثام الحواس.
تباً لليلة الرابع عشر من فبراير، وهي تعبر في العتمة أيضاً، من دون أن تستثنيها مؤسسة الكهرباء من برنامج التقنين اليومي، ولكن مهلاً، أفيدونا: هل العناق في العتمة حلال أم حرام؟