القاهرة | في عام 1959، غنت أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي أغنية «الحب كده». القصيدة التي كتبها الشاعر بيرم التونسي تبدو شرحاً مبسطاً للحب في حالاته المختلفة، أو ــ للدقة ــ الحالات المختلفة للحب الواحد: «وصال، دلال، رضا وخصام»، إنّه دوماً يجمع القليل «من ده وده». بعد تلك المقدمة الأشبه بعنوان يصف أو يمهد للموضوع، تنتقل «الست» على لسان الشاعر إلى ضمير المتكلم.تفصّل شرح ما سبق بالتطبيق على حالتها الخاصة «حبيبي لما يوعدني، تبات الدنيا ضحكالي. ولما طبعه يتغير، وقلبي يبقى متحير، أبات في نار»، المقطع السابق بدوره، نموذج لبقية المقاطع الشارحة للعنوان «الحب... كده». كأنما كانت الأغنية التي اختتمت بها ثومة خمسينيات القرن الماضي، تمهيداً لستينياتها المجيدة التي هيمنت عليها «سيرة الحب» تماماً.
لقد غنت «ثومة» للوطن كما للملك. غنت عن ولـ ناصر، غنت لفلسطين وللسماء والنور والصبايا الحور. وحنّت إلى «زمان يا سلاحي» التي صارت آنذاك نشيداً وطنياً. لكن الصوت الذي بقى ويستعاد كل ليلة هو نداؤها للحب في كل حالاته. آلامه وأفراحه، مواسمه ومعانيه. «كوكب الشرق» صارت بالزمن كوكباً للحب لا تفلت من مداره أي من نجماته.
قبل نشوء الانترنت والسوشيال ميديا واستقرار قواعد الترويج والدعاية الإعلامية، عرفت «الست» أنّ الظهور في موعد ثابت هو لب بناء الجمهور لعشرات السنين.

كان الخميس الأول من كل شهر هو إطلالة ثومة. كانت أغنية الست العنوان العام لذلك الخميس الثابت المقدس. لكن الحب صار بالتدريج جوهر الليلة المنتظرة دائماً. كانت الأعمال الوطنية ابنة الأحداث والحوادث، وكان بعض المديح ابن لحظته وبديهتها، وبعض الحزن والبكاء حتى ابن التأثر الوقتي. أما العمل الذي كان يجهز للجمهور في الموعد الثابت فكان دائماً وأبداً يتغنى بالحب. بكلمات بيرم تارة وقصائد رامي طوراً، عبد الوهاب محمد ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل. بعضهم كان عظيماً قبلها ثم خلدته أغانيها، وبعضهم تعاظم في أغنياتها ثم تواضع بعد رحيلها، وبعضهم لم يكتب خارج كوكبها سوى أغاني الوطن والكفاح، فاستحضرته رقيقاً ومحبّاً في أغانيها.
كانت «الحب كده» الأغنية الشارحة. لكن لكل معنى من معانيها وتساؤلاتها وحالاتها ومقاطعها، أفردت لها أغنية منفصلة وأغنيات، حلّقت الست في مجد الستينيات بـ «إنت عمري» و»سيرة الحب» و»حب إيه» واختتمتها مع «ألف ليلة وليلة»، قبل أن تزين سبعينياتها ـ سبعينيات القرن أيضاً ـ بـ «ليلة حب» وسؤالها «ياللي عمرك ما خلفت معاد في عمرك، غبت الليلة دي ليه؟». كان تحليقها الستينياتي السبعيناتي مع بليغ وعبد الوهاب مصاحباً لخفة الكلمات وبساطتها إلى درجة اقتربت كثيراً من الكلام العادي. كان انتقالاً لغوياً تم بالتدريج من حب الخمسينيات في «جددت حبك ليه» أو أربعينيات «رق الحبيب». لم تخترق خفة الكلمات في العقدين الأخيرين سوى قصائد كـ «أطلال « إبراهيم ناجي. وليس غريباً أنّ اللحن كان سنباطياً. وأياً كان، فإنّ الكلمات «الأخف» هي التي بقيت تستعاد في مواسم الحب إلى اليوم محمولة بجزالة وعذوبة الألحان. بقيت أم كلثوم صرحاً من الحب لم يهو أبداً لأنه لم يدع لمحة بين قلبين من دون أن يتغنى بها. وكان من حظ الحب أن تصدى له الصوت الأعظم، وتنافس في ألحانه المتنافسون.