يروي التاريخ الكثير عن حكايات مدن اندثرت، وعن قرى أصبحت أطلالا لم يتبقّ منها سوى الذكريات أو الاسم أحياناً، أو الصور إن وجدت. وهناك أخرى، قاومت أو لا تزال تقاوم الانقراض أو الموت. المريجة وتحويطة الغدير والليلكي، ثلاث قرى في الضاحية الجنوبية لبيروت لا تزال تحافظ على اسمها، والقليل من تاريخها. من خلال ما يُروى عن هذه القرى الثلاث، تستطيع المخيلة أن ترسم حقولاً من الزيتون والليمون كانت تمتد من مشارف الحدث، إلى أطراف برج البراجنة، تضم البيوت الصغيرة التي تحتضنها.
ولا تزال بعض الشواهد باقية لتعطي فكرة عمّا كانت عليه المنطقة، مثل عدد من البيوت التي قاومت المد العمراني، وباتت تُشعر العابرين قربها بعبق القرية المتحوّلة قسراً. ولا يزال بعض السكان، الذين رفضوا ترك بيوتهم وقراهم، ولم ينصاعوا لواقع التّهجير المفروض عليهم، يخبرون عن حكاياتهم وذكرياتهم وعن منطقة تبدّلت كثيراً حتى كادوا لا يعرفونها.
تقول أم إيلي، وهي إحدى السّكان «الأصليين» الذين رفضوا مغادرة المنطقة خلال الحرب «كيف أترك جيراني الذين تربيت معهم، وأحبائي الذين عشت معهم أجمل سنين عمري!؟». تقيم أم إيلي في تحويطة الغدير منذ أكثر من 50 سنة، إثر زواجها من أحد أفراد القرية. هكذا انتقلت من بشري إلى تحويطة الغدير، ولا تتردد في القول: «كانت التحويطة والمريجة أجمل من بشري، كنا نشم رائحة الزهور في الشوارع، وكانت أشجار الليمون تملأ البساتين. الإلفة والمحبة اللتان كانتا بين أهل المنطقة، لم تكونا موجودتين في أي مكان آخر، حتى في أيّام الحرب لم تدخل الطائفية نفوس السكان».
عندما اشتدّت الحرب تهجّر الكثيرون، وخصوصاً العائلات المسيحية من المنطقة. وكانت عائلة أم إيلي ممن غادروا عام 1983، «لكن روحي بقيت معلّقة هنا». وبعد 17 عاماً عادوا، خصوصاً أنهم كانوا قد رفضوا أن يبيعوا أملاكهم كما فعل معظم السّكان. ترفض القول إنّ هناك من أجبر الآخرين على البيع، «لكنهم قد يكونون باعوا بسبب الخوف، خصوصاً أن هناك كثيرين ندموا بعد ذلك، ويتمنون العودة إلى قريتهم التي هجروها». تضيف بحرقة واضحة أنها تتمنى أن يعود الجميع، لا بل وتناشدهم العودة. «هنا نعيش كلنا أخوة، مسلمون ومسيحيون، كلنا ننتمي لوطن واحد ومجتمع واحد». السكان هنا طيبون، ولم يتركوها وحدها يوماً. تعيش مع ابنها بعد وفاة زوجها منذ قرابة العامين، وجيرانها تراهم بمثابة الأهل.
أم يوسف، هي أيضاً لم تترك قرية المريجة حيث تقيم. أصلها من الليلكي، وتقيم في المريجة منذ عام 1954. تقول إنّ المنزل الذي تسكنه بُني منذ عام 1860 إثر تهجير أهله من دير القمر، وثم أكمل زوجها بناءه ليصبح كما هو الآن. ورغم تضرّره مرتين في الحرب وإعادة ترميمه، إلّا انّه ما زال محتفظاً بروحه وطبيعته القرويّة. هي أيضاً هُجّرت عام 1983، وعادت مع عائلتها في عام 2003. حين تسألها لماذا لم يبيعوا كما فعل معظم السّكان؟ تجيب: «وهل يمكن للإنسان أن يبيع ذكرياته!؟».
تسكن في هذا البيت وحدها بعد وفاة زوجها قبل سنة ونصف، يزورها أبناؤها من وقت إلى آخر، وتبادلهم الزّيارة. ويسأل عنها الجيران في زيارات متقطّعة. تقول إنّها تشعر بالوحدة في بعض الأحيان، قد يخالجها شعور النّدم بعدم البيع، الوحدة صعبة كما تقول، ولكن هذا الشعور لا يدوم «إذ لا يشعر الإنسان بالسكينة إلّا في منزله. الجيران هنا طيّبون، وكانت علاقتنا معهم مميّزة قبل وفاة زوجي، أمّا الآن خفّت الزيارات، لكنها لم تتوقّف».
يقطن في المريجة من أهلها الأصليين ما يقارب الـ 20 إلى 25 عائلة فقط. يلتقون غالباً في المناسبات الدينية، خصوصاً بعد إعادة ترميم الكنائس. فلكلّ بلدة كنيسة تابعة لها، واحدة في التحويطة والثانية في المريجة. أما الليلكي فتضم كنيستين، الأولى هي مارالياس الليلكي والثانية هي مارالياس البرج. لا يوجد تاريخ محدّد معروف لتاريخ بناء هذه الكنيسة. يقول عضو لجنة الوقف فريد سعادة إنّ «الكنيسة بنيت على الأرجح عام 1835، وهذا ما تفيده احدى اللوحات الموجودة فيها.
يجرى العمل على مشروع سكني يعيد أهالي المريجة إلى قريتهم
لكن التاريخ المعروف هو عام 1912، حين أعيد ترميم الكنيسة واعتمدت للقداديس والمناسبات الدّينيّة». تضرّرت الكنيسة كثيراً خلال الحرب الأهلية، وخصوصاً عام 1983 وبقيت مهجورة حتى عام 2000، حين أعيد ترميمها من قبل البلدية ومتبرّعين. إلّا أنّ القداديس لم تعد إليها إلا في عام 2006. يرفض سعادة اعتبار المجلس البلدي الحالي أفضل من غيره في عمله تجاه هذا الموضوع، يقول إن «كلّ مجلس أدّى واجباته، ولكن الجو السياسي العام ينعكس على الإلفة والطمأنينة بين السكان، من يأتي للقداس عليه أن يشعر بالأمان، ونحن في بلد تحكمه السياسة، حتى وإن لم نتبع لأحد. فالتحالفات السياسية هي التي شجّعت على العودة لهذه الممارسات».
هذا الشعور بالأمان هو الذي يشجع البلدية الحالية على السير قدماً في مشروع إعادة السكان الاصليين إلى المنطقة، كما يقول رئيس البلدية الاستاذ سمير أبو خليل. من جهة، لا تزال الكثير من العائلات تحتفظ ببيوتها في المنطقة، ولو مهجورة. ومن جهة ثانية بدأت البلدية منذ سنة تقريباً بتنفيذ «المشروع رقم 1 لإعادة سكان المنطقة الأصليين إليها». وقد لاقى هذا المشروع تجاوباً كبيراً، إذ «نفذت معظم الشقق، ويُتوقّع الانتهاء منه في غضون السنة والنصف». ويكشف أبو خليل أنّ «هذا المشروع ستتبعه مشاريع مماثلة في المستقبل، والهدف إعادة البحث عن صيغة للعيش المشترك بين المواطنين، وعودة سكان المنطقة إليها». ويوضح أن عدداً من المتموّلين ساهموا في التنفيذ بإشراف البلدية فيما قدّم الوقف الأرض التي يقام عليها المشروع. يرى أبو خليل أنّ المشروع ستكون له إيجابيات كثيرة في المستقبل وسيضيف الكثير للمنطقة «بالتأكيد لن تعود إلى سابق عهدها لكن التنوّع السكاني سيغني المنطقة ويساهم في تخفيف حدة الاختلاف والتفرقة على أساس المذهب أو الطائفة».
تبدّلت المنطقة في السّنوات الأخيرة كثيراً. «كانت جنّة»، هو التعبير الأكثر استخداماً حين تسأل عن أحوال المنطقة القديمة. يصفونها بالقول: كانت قرية يعمل معظم أهلها بالزراعة، وتكثر فيها أشجار الليمون والزيتون، منازلها مؤلفة من طبقة أو اثنتين على الأكثر، وكلّ بيت له حديقة مسيّجة بأشجار صغيرة، وتنتشر رائحة الزهور في الليل لتدخل كل بيت وشارع. تغيرت هذه المعالم كثيراً نتيجة التحولات التي طاولت المجتمع، فباتت أشبه بمدينة تترجّل على مقربةٍ من العاصمة التي امتدت ضواحيها لتبتلع كل القرى التي كانت هنا. وغادر سكّانها ليحل محلّهم آخرون، لم يبق من طابعها القديم سوى عدد من السكان الذين رفضوا الانصياع للتهجير القسري، وبقوا في منازلهم، احتفظوا بذكرياتهم، بماضيهم، وأرضهم. وهؤلاء هم الذين يمنعون المنطقة من أن تصبح أثراً لا نراه سوى في الكتب أو الصّور.