هبَط المساء عند تقاطع «أبو الأسْوَد» دفعةً واحدة. غابت ملامح أشجار المَوْز في سهل عدلون وبدت كأشباح ترقص في عتمة لا حدودَ لها. لا أضواء سوى تلك الآتية من منازل عمَّال البساتين أو من البيوت التي شُيّدت إلى جانب «الأوتوستراد» بطريقة مخالفة للقانون، وتلك التي تُزيّن مقاماً دينياً أُعيد ترميمه حديثاً. أما الطريقُ إلى صيدا فبيروت سالكة لكنَّها ليست آمنة تماماً. فثمَّة مَن قرّر، عن سابق إصرار وتصميم، أن يتحكَّم بزِر الإنارة المُطفأ في الاتّجاهين!
بينما تغرق القرى الواقعة عند جانبَيْ «الأوتوستراد» في نوم متقطّع، يفيق أسعد عند الواحدة ليلاً ليتّجه بـ»البيك آب» مُحمَّلاً بأنواع عديدة من الخضراوات والحمضيّات إلى منطقة المدينة الرياضية أوّلاً ومن ثم إلى سنّ الفيل شرق العاصمة. يكاد الرَّجلُ يُحصي عدد أعمدة الإنارة الموزَّعة على «الضفّتين» ذهاباً وإياباً. يحفظ كلَّ تفصيل في الطريق إلى «الحِسْبة»، لكنه يتحسّب أيضاً لكلّ أنواع المفاجآت المروريّة. أعمدة الإنارة التي يُفترض أن لا وظيفة لها سوى الإنارة مُطفأة تماماً. يقول أسعد: «تعوَّدنا». العبارة ذاتها التي يردّدها كثيرون سواه، وأحياناً يُعبَّر عنها بجملة «عادي، شو وقفت ع الإضاءة؟» مؤخّراً كاد أسعد أن يصطدم بسيّارة أخرى عندما حاول الهروب من «آرمة» (لافتة) سقطت في منتصف الطريق بفعل العاصفة. لم يكتشف «الجسم الحديدي العملاق» إلا قبل أمتار قليلة: «الدنيا عتمة».
بين وقت وآخر يلاحظ أسعد، كما آخرون، عدداً من حوادث السّير «الغريبة» على طول «الأوتوستراد» يُرجَّح أن من أسبابها أيضاً عدم وضوح الرؤية ليلاً. يسأل الرُّجل مُستغرِباً: «كيف تجرى عملية التلزيم أساساً من دون تأمين مسألة الكهرباء؟». ويقول من موقع المُتابع: «حفَروا المشروع ومن ثم ركَّبوا أعمدة الإنارة بعد انتهاء المشروع»، لافتاً إلى أنه «يُفترض بالمعنيين أن يكونوا على علم بحجم الطاقة المتوفّرة وتلك المطلوبة للإضاءة الكاملة». على طول الأوتوستراد لا يفهم كثيرون مثلاً لماذا تُضاء بعض أعمدة الإنارة نهاراً فيما لا تُشغّل ليلاً، فيما يتحدّث البعض عن «التجربة الناجحة» في تأمين الكهرباء عن طريق الطاقة الشمسية.
يهتزّ «البيك آب» بقوّة عند «خسفة» جسر الزهراني، لكنّ الصناديق المُوضَّبة بطريقة مُحكَمة لا تتأرجح يميناً أو يساراً. يعرف عابرو الأوتوستراد جيّداً هذه «الثغرة» ومثلها عدد آخر من الخسفات والمطبّات على طول الأوتوستراد. يعود الرّجلُ بالصورة إلى تموز 2006 مستذكراً هذا المكان تحديداً يوم قصفت إسرائيل الجسر مرّتين وثلاث قبل أن ينهار بصعوبة، ليقوم بعد الحرب مرّة أخرى. إلى اليسار تنتشر أضواء معمل الزهراني الكهربائي على مساحة كبيرة، وقربه سفينة مُضاءة في البحر قبالة بستان النخيل على أطراف الغازية.
يتابع مُوزّع الخضروات سيره بسرعة لا تتجاوز الـ80 كيلومتراً بالسّاعة. إلى الأعلى لجهة اليمين يشعُّ تمثال «السّيدة» على كتف مغدوشة المُطل على صيدا. لا يسلك أسعد الأوتوستراد الشرقي للمدينة مفضّلاً طريق البحر المظلمة أيضاً. المقاهي مقابل القلعة البحرية تلملم آثار يوم عادي. وهكذا إلى ما بعد صيدا: تحسُّن نسبي في إضاءة الطريق، تخترقها أضواء السيارات الخلفية وأنوار معمل الجيّة الحراري، وبعد ذلك مُنعطف فطريق أشبه بنفق مظلم تلوح بيروت في نهايته مدينة كئيبة. أما ركّاب طائرة «الميدل إيست» التي ارتفعت لتوّها من «مطار رفيق الحريري الدولي» فلعلَّهم ذاهبون للبحث عن بلاد أكثر ضوءاً!

■ ■ ■



يسير حسَن عند الكورنيش البحري لصيدا في منطقة الأوّلي حيث يتوقّف السّير تماماً وصولاً إلى أوّل الرميْلة. يحتشد الباعة الصغار المتجوّلون كمَنْ ينفّذ خطة انتشار مدروسة بين السيارات. ووسط الزحمة أيضاً حاجز لمجموعة من متطوِّعي «الصليب الأحمر». يعود المهندس العارف بخفايا «المشروع الحلم» عشرين سنة إلى الوراء متحدّثاً عما أسماها «أغلى أكلة سمك بالتاريخ» جمعت اثنين من كبار المسؤولين في البلد في منتصف التسعينيات وأثمرت اتّفاقاً على تقاسم تلزيم الأوتستراد بشقّيه (خلدة ـ صيدا وصيدا ـ صور)! «عملياً لا وجود لأوتوستراد واحد من بيروت إلى صور (85 كلم)، وجزء من الصفقة التي رُكّبت آنذاك هو أن يمرّ الاوتستراد في قلب صيدا وليس خارجها لأن من شأن ذلك أن يعزل المدينة عن أهل الجنوب».
عملياً لا وجود لأوتوستراد واحد من بيروت إلى صور

والنتيجة بحسب المهندس: «بتطلع من بيروت لصيدا بنص ساعة، بتوصل على الأوّلي بدك نص ساعة لتطلع من صيدا»! رغم الأهمية الاستراتيجية لـ»المشروع» الذي شُيّد على مراحل، يعدّد العارف إيّاه نقاط الضعف الكثيرة: «نقص في التخطيط، عملية التلزيم تمّت بشروط للدفع بطريقة عشوائية، نوعيات الزفت سيئة، عدم توفير الإضاءة الكافية، إضافة إلى عدم توفر إشارات السلامة المرورية بالشكل المطلوب، فضلاً عن أن الطرقات الجانبية أيضاً ليست صالحة»!
يعرف الجميع أن الطرقات في كل بلاد العالم لها عمر افتراضي وتحتاج الى صيانة دائمة. فأين ذلك من اوتوستراد الجنوب؟ يسأل حسن: «لماذا لا تكلّف وزارة الاشغال مثلاً مراقباً واحداً فقط لمراقبة أحوال الطريق؟ برأيه «القاطع»، فإن مشروع الاوتوستراد، خصوصاً الجزء الممتد بين الغازية وبرج رحال «هو تجاري استثماري وليس إنمائياً لانه لم يحقق الغاية التي أُسّس لأجلها تماماً». ويلفت الرجل إلى أن الواقع الحالي أدى إلى ظهور طبقة من المقاولين «بدها تعمل مصاري» على حساب الإنماء الحقيقي. يميّز الاختصاصيون في أحوال الطرقات وكذلك السائقون بين شقّي الأوتستراد. ففي مقابل طريق خالية من الهزّ بين الأوّلي وبيروت، يبدو وضع الطريق السريعة باتجاه صور في حالة سيئة لهذه الناحية. يُرْجِعُ البعض سبباً إضافياً لذلك وهو نوعية التربة الأكثر صلابة في المناطق القريبة من بيروت.
مشياً على القدَميْن، يتابع حسن سيره على الكورنيش الشمالي للمدينة بمحاذاة الملعب البلدي، بينما كان موكب لأحد الشهداء يمرُّ من «بوابة الجنوب». «الإنماء كفعل مقاوِم يجب أن يليق بتضحيات الشهداء». قال الرجل.. ومشى!

■ ■ ■



كان خطّ السيارات الطويل يتحرّك ببطء بين الـ»مُثلّث» و»بن معتوق» الشهير في خلدة. ثمّة ديناميّة تاريخية لافتة ميّزت، ولا تزال، الخطّ الساحلي بين خلدة والدامور. هناك الآن: «الجامعة الإسلامية» وعدد كبير من الأفران والمطاعم والمقاهي والمسابح (صيفاً) و»أبو عرب» (ملك الكعك كما يسمّي نفسه) إضافة إلى محطّات الوقود العديدة. مِنَ الشبّاك الخلفي لسيارة الـ»تويوتا» يُخرِج عليّ، ابن السنوات الأربع، رأسه ويده ليلقي التحيّة على أفراد دوريّة مؤلّلة للجيش الذي يعد الأوتوستراد حيوياً بالنسبة إليه أيضاً. غداً ليس عيد ولا هو يوم استثنائي، لكنّ شمس نهاية الأسبوع مغرية لـ»بيارتة الجنوب» ليعودوا إلى قراهم التي تركوها الأسبوع الماضي. يسلك الأوتوستراد، في الأيام العادية، قرابة سبعين ألف سيارة (في الاتجاهين)، ويتضاعف العدد في أيام «الويك أند» على خط بيروت ـ الجنوب. فماذا عن العلاقة التاريخية للجنوبيين بأرضهم؟ يقول الضالعون في «الاجتماع اللبناني»، إنّ ما يميّز الجنوبيين هو الرغبة في العودة إلى مسقط الرأس لِما لها من اعتبارات نفسية واجتماعية وهذا يفسّر حرص الجنوبيين على بناء البيوت في قراهم حتى لو لم يأتو لزيارتها إلّا مرة في السنة. الاوتوستراد، رغم المآخذ الكثيرة عليه، يقلّص المسافة النفسية والاجتماعية، إذ يصبح بمقدور الجنوبي أن يصل إلى قريته ويتواصل مع بيئته الأساسية خلال ساعات قليلة جداً. في السنوات الأخيرة، قلب كثيرون المعادلة فعادوا للسكن في القرية ويأتون يومياً للعمل في المدينة. «الأوتوستراد» بهذا المعنى بحسب هؤلاء، هو خط تواصل نفسي واجتماعي أيضاً.
يتوقّف والد عليّ عند «المحطّة» لتعبئة مخزن الوقود في السيارة. أمامه الآن مسافة طويلة قبل الوصول الى وجهته النهائية في بنت جبيل أقصى الجنوب. في الطريق السريعة بعد صيدا سيمرّ بمحاذاة نصُب الاستشهادي بلال فحص الذي اعتبره البعض في السابق بمثابة بوابة ثانية للجنوب. سيمرّ أيضاً بين تلال خضراء يعكّر صفو لونها بعض حرائق النفايات القريبة، وبالقرب من «مشاحر» الفحم لدى «البدو» الذين يسكنون المنطقة. سيمرّ قريباً من بيوت قرى الساحل التي تضرّرت واجهتها التجارية البحرية في السنوات الأخيرة. سيُلاحِظ والد عليّ أن عدداً من «البسطات» و»فانات الإكسبرس» أزيلت أخيراً فيما تمّ الاحتفاظ ببعضها لقوة نفوذ أصحابها. أمّا لماذا توقّف العمل بـ»الأوتوستراد الحلم» عند نقطة برج رحّال (فعلياً عند «أبو الأسود»)، فالجواب يبقى مُعلّقاً، كما هي الحال في مشاريع إنمائية كبرى في الجنوب ومناطق أُخرى.