يقول سوريون إنهم في درعا افترشوا الحدائق والسهول الترابيّة. وهم لا يحتفلون بطفرة الموت في المدينة التي انطلقت منها الثورة، إنما يسجّلون اعتراضاً أخيراً عليه في حدائقهم وسهولهم، إذا حفروا فيها أسرةً لموتاهم. لا مقابر في سوريا تتسع للموت الكثير. تجاوز الموتى قبورهم، بعضهم نام في حدائق المنازل. ومن يجد لنفسه سريراً في الأبد، فإن ذلك سيكلفه مبلغاً ليست قيمته كبيرةً بالنظر إلى هول المقتلة، ورغم ذلك يبقى مبلغاً ضخماً في حسابات عائلة فقيرة، لم تستطع النجاة في هذه الحياة ولا في نهايتها.
أحد العائدين من درعا، تحدث عن «قبور افتراضيّة». عشرات القبور كانت تُحفر دفعة واحدة، فور البدء بمجزرة. وإن كان الهارب يستخدم مصطلح المجزرة في غير مكانهِ، فإنه لا يبالي: طفرة الموتى تعني حدوث مجزرة. ولا مقابر تكفي. يروي حادثة:
«2013. لا أذكر أي يوم بالضبط حدث ذلك، لكنه كان يوماً مشمساً، من تلك الأيام التي تكون فيها الشمس ساطعة ورغم ذلك يكون الجو بارداً. كان الطقس لطيفاً ورغم ذلك حدثت معركة. ولا أقول إنها متكافئة، لكنها معركة. لقد كانت هناك قذائف تهطل، ومدافع ترعد، وأصوات المذعورين ترتفع. في المرحلة الأولى سقط ثلاثة شهداء. في المرحلة الثانية سقط سبعة. لقد حدثت مجزرة. سمعنا تكبيرات وصيحات ورثناها لنرددها في معرض وداع الموتى. وحدهم الموتى لم يعترضوا، حتى الذين طاردتهم القذائف، في المقبرة. وصلت القذائف قبلنا. كان يوماً مشمساً، وحدثت مجزرة، في المقبرة».
الهارب بطعمٍ المرارة، هرب من موتهِ، ولم ينج من حياته. يؤرقه السؤال عن الأبديّة: أين يذهب الموتى؟ وإن كان هذا وجودياً وعدمياً في الآونة نفسها، فلا إجابة على سؤاله الأول: أين تنام عيونهم إذا تحولت البلاد كلها إلى مقبرة غير معلنة؟ في سوريا يبحثون عن نافذة. جرّبوا أن يزحزحوا «الأبواب الموصدة» في درعا، 6 آذار 2011، يوم كتب الأطفال شعارات على جدران المدرسة. جرّبوا الثورة. جرّبوا النوم في خيمة. جرّب الهارب مع أقرانه كل شيء، بحثاً عن نافذة، يمدّون رؤوسهم منها، بحريّة. جرّبوا أن تحل بهم مجزرة. جرّبوا ألا يجدوا مكاناً للقتلى. غير أن ما علق في رأسه من كل شيء، بعد كل شيء، هو صور الموتى وهم يُقتلون. في رأسه صورة لشاهدٍ، على أحد القبور بحديقةٍ (كانت) في درعا، كُتب عليه «لا إله إلا الله». وفي رأسه، جسد طفلة، يختبئ تحت الأرض، من قذائف الرسالة الخالدة.
نتجول في ذاكرة الهارب الذي يتمتم. يردد أسماءً كصخور يحملها في فمه ويقذفها كمن يتخلص من حملٍ ثقيل. مقابر الشهداء. مقابر إسلاميّة. مقابر في حمص. وفي الشام ثمة مقابر أيضاً. مقابر في الحدائق. مقابر على الطريق. مقابر جماعيّة. يتمتم كلمات غير مفهومة ونتجول معه في دائرة مغلقة، فيها أشباح جميلة بثياب ملونة وخدود متعبة، وقصص لأشخاص لا يعرف إلا أنهم ماتوا. نتجول ولا نصل. نطالبه بالسكينة، كما يفعل الموتى، إذا ناموا. وصل أخيراً إلى مكانٍ آمن في ذاكرته. وها نحن نتجول وحدنا: بعد المجزرة، المقبرة، أي مقبرة عابرة لمجزرة أخرى، عابرة أيضاً. البلاد تتحول إلى مقبرة. الحارس طاغية، والأهل حبّات كرز نائمة. بعد المجزرة، أجساد تبحث عن أسِرة. موتى تركوا أسماءهم في سِجلات المقتلة. يوماً ما ستستيقظ الأرواح، فتعود إلى منازلها المُهدّمة. وفي الطريق الكثير من الشواهد. هنا ارتكبت الطائرات مجزرة. هنا ذُبحت عائلة. هنا خُطفت امرأة. ومِن هنا... مَرّ طاغية.