ها قد أضيئت جوامع بيروت. لا كهرباء بعد. نحن في عام 1878 ميلادي. المصابيح أعلى مآذن ومنارات المدينة. أصوات مدافع «القِشلة» (المعسكر - الثكنة) العثمانية تدوّي في الأرجاء... فرحاً. هنا الجامع العمري، المعلم الأثري وسط العاصمة، تُتلى فيه خطبة. ما الخبر؟ إنها ذكرى «المولد النبوي الشريف». قبل هذا التاريخ، بحسب المؤرخ عبد اللطيف فاخوري، لا شيء يُذكر عن احتفالات «بيروتية» منظّمة حكوميّاً لهذه المناسبة. تمرّ 3 سنوات، بعدها، ويخرج الأهالي ليكرروا «الفرحة» على طريقتهم. يحرقون البارود ويطلقون «الفرقيع»... ابتهاجاً.
ولد النبي، أو «ولد الهدى فالكائنات ضياء... وفم الزمان تبسّم وثناء». لم يكن أحمد شوقي قد نظمها بعد، لكن عمّا قريب سيفعل، وستدخل «همزيته النبوية» في أشهر المدائح والتواشيح، الآتية من قلب مصر «أم الدنيا... والموالد». تتالى السنوات، ومعها الاحتفالات، وبيروت على الموعد، ومنها إلى سائر الاتجاهات ضمن ما سيُعرف لاحقاً بـ»دولة لبنان الكبير».
المولد فرحة. لا حزن هنا، لا تراجيديا، إنما فرح ممزوج بوجد صوفي. أهل التصوّف هم من حملوا هذه الذكرى - المولد، بكل التراث، على أكتافهم لقرون خلت. من الشيخ عمر الملاء (قبل نحو 1000 سنة) في الموصل، فالأزهريون في مصر، مروراً بـ»تكايا» و»زوايا» صوفية بلاد المغرب والشام، وصولاً إلى بيروت. المولد فرحة ولا شيء سوى الفرحة. للكبار فرحة بالنبي «الرحمة المهداة» للعالمين، وللصغار معرفة سيرة وحلوى. سيصبح المولد في بيروت، لاحقاً، طريقة الاحتفال التقليدية بالأعراس، بولادة كل طفل، بشفاء مريض وعودة مهاجر، وهكذا. ستُقرأ سيرة النبي محمد، ضمن مولد إنشادي، لمناسبة اعطاء امتياز سكة الحديد إلى حسن بيهم، وترميم جامع الدباغة، وعقد قرآن مصباح حلواني على كريمة سعد الدين غندور،
كانت مناسبة
فيها الكثير من الروحانية، بأقل كلفة ممكنة


عاش الشيخ
عبد الغني الكوش ومدح قبل موجة أعداء الفرح

وغيرهم. هؤلاء، البيارتة، عاشوا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يذكرهم المؤرخ فاخوري مع عناية بالتفاصيل. المولد لاحقاً، بكل طقوسه التواشيحية، سيصبح أسلوب فرحة لمناسبة بداية السنة الهجرية، وتخرّج التلامذة من مدارس حفظ القرآن، وطبعاً لا تكتمل الفرحة من دون اللوز المغطّى بالسُكّر (الملبّس) والمشروبات المختلفة الألوان.
في طرابلس، حيث لزوايا الصوفية باع طويل، طقوس احتفالية منها ما بقي، ومنها ما اضحمل، تماماً كما الحال مع بيروت. في «الفيحاء» كانت تُزيّن الأسواق ويُفرش السجاد والأقشمة، توزع الحلويات و»الليموناضة» على المارّة. أصحاب «الطريقة» يجوبون الشوارع بمدائحهم وعراضاتهم المليئة بمفردات «الحب». هذه التفاصيل أصبحت اليوم مجرد ذكرى، بحسب الدكتور عبد الغني عماد، أستاذ العلوم الاجتماعية، وذلك في بحثه عن «العادات الاجتماعية في طرابلس بين الانقطاع والاستمرار».
بعض العجائز، في طرابلس، يذكرون عادات كانت سائدة في ذكرى المولد. كان الأهالي ينثرون رماد الفحم على سطوح المنازل، وعلى الشرفات، وعند هبوط الليل يرّشون «الكاز» عليها ويشعلونها. هكذا تضاء المدينة، تتلألأ الأضواء في الشوارع والأزقة... «كانت مناسبة فيها الكثير من الروحانية، بأقل كلفة ممكنة، رزق الله على هيديك الأيام». هكذا في بيروت، لا يزال بعض أهلها يذكر «الأبّولة». كان الأطفال يُحبّون هذا «الطقس». فعلى وقح المدائح النبوية والأشعار، تُضرم النار بأكوام الحطب والعيدان، في تقليد يُشبه رفع المشاعل الجماعية. هذه هي «الأبّولة البيروتية». في النار شيء من العظمة، الفخر، ويفترض البعض أن هذا الطقس ربما اقتُبس من «الافرنجة» بعد الحملات الصليبية. لكن، بكل الأحوال، ها هي «الأبّولة» تُضيء في بيروت على وقع: «يا رسول الله يا سندي، أنت بعد الله معتمدي، فبدنياي وآخرتي، يا عظيم الجاه خذ بيدي».
أين الموالد النبوية، بكل تراثها، اليوم؟ إنها تُنازع. تموت رويداً رويداً، ويحل مكان الفرحة، للكبار والصغار، شيء آخر معاكس تماماً. في زمن «داعش» وأخواته يصبح الكلام عن الموالد «المحرّمة» ترفاً. كان لا بد لـ»طيور الظلام» أن يقتلوا كل مناسبة فيها بهجة، قبل أن ينتقلوا لقتل الناس أنفسهم. المسلمون التقليديون، من سنّة أشاعرة، وصوفية وأصحاب طريقة، يبدو أن سهام «السلفية» الآتية من صحراء نجد قد أخافتهم. في بيروت، هذا العام، كان احتفال «دار الفتوى» بالمولد النبوي في قاعة «مسجد الأمين». أصبحت الاحتفالات، تقريباً، مقتصرة على القاعات المغلقة... أقله الاحتفالات الكبيرة والمركزية. إحياء جاف وباهت وذو طابع «بروتوكولي». إنه، على ما يبدو، عصر الخوف. الاحتفال بالمولد النبوي، عند السلفية - الوهابية، بدعة محرّمة. لهذا سيخطب مفتي السعودية، حفيد محمد بن عبد الوهاب، بحرمتها وملاحقة فاعلها. كذلك في مصر نجد الشيخ الحويني، أيقونة السلفيين الجُدد، يقول الأمر عينه. عندما يحصل هذا في مصر، وتتراجع الاحتفالات خوفاً من حويني، فتلك إشارة لا يمكن القفز عنها. لقد أصبح هؤلاء أقوياء إلى حد تهديد الصوفية، وأهل الموالد، في مصر نفسها! الأمر عينه حصل في بلاد المغرب العربي، أما في سوريا، فبعد اغتيال الشيخ محمد رمضان البوطي، المحب للموالد والتواشيح، أصبحت هذه الاحتفالات شبه منسيّة. سوريا أصلاً بحر من الدماء، اليوم، ويصعب الحديث عن مجرّد احتفالات. إنه الصراع بين الأشعرية والصوفية من جهة، وبين السلفية بنسختها الجديدة، هذا الصراع الذي كان سابقاً من «تحت الطاولة» خرج إلى العلن، وبقوة، خلال السنوات الأخيرة، وآخر تمظهراته تتجلى في أحياء ذكرى المولد النبوي. الهوى السلفي ضرب لبنان، أخيراً، فكان أن خفتت أصوات الموالد. هذه «البدعة» التي كان ابن تيمية أبرز من حرّمها، ولحقه بها مفتي السعودية السابق عبد العزيز ابن باز، وصولاً إلى المفتين الحاليين. كثيرون، من العلماء، خرجوا وقالوا لهؤلاء إنها «سنّة حسنة» ولا بأس بها، ولكن عبثاً، عندهم «حرام» والسيف بانتظار من سيحتفل.
كان من حظ الشيخ عبد الغني الكوش، أشهر مدّاح لبناني على الإطلاق، أنه عاش وصدح ومدح قبل أن تضرب بلادنا موجة «أعداء الفرح». لا يمكن الحديث عن المولد النبوي، كذكرى، كتراث، بخاصة في بيروت، من دون الحديث عن الكوش. أصول عائلته مغربية، لكن الشيخ بيروتي قح، عاش ومات فيها. أسس في المدينة أول جمعية للمدائح اسماها «جمعية الإنشاد النبوي الشريف». حصل هذا عام 1920. ظل الكوش، بصوته الشجي، ينشد ويمدح حتى منتصف القرن الماضي، فعرفه الكبار والصغار والوجهاء وطار صيته في الأرجاء. إلى اليوم لا يزال هو المدرسة، كل من يريد اتقان الموشحات والمدائح النبوية، فما عليه إلا العودة إلى «كاسيتات» الكوش. أن تقيم عرساً في بيروت، وتريد أن تبيّض وجهك مع المدعوين، فما عليك إلا استدعاء الشيخ لـ»يبارك العرس بمدح النبي». عاصر الكوش «زوايا» علي القصار ومحمود المجذوب وابن عراق، قرب مبنى البرلمان اليوم، في وسط بيروت. كل هذا أصبح ذكرى من الماضي. لاحقاً سيشتهر جامع البسطا التحتا، بما يشهده من موالد وذكر، بحضور الشيخ الذي ظل على هذا النهج، وإماماً للمسجد، حتى منتصف الخمسينيات. رحل الكوش، ومات بعده كثير مما أحياه من فرح، ولم يعد يُعرف شيئاً عن رفاقه الذين أسّس معهم جمعية الإنشاد، ومنهم: راضي شاكر وقاسم يموت والحاج عبد الرؤوف الكبي وعبد الله علم الدين وحسين يموت وناجي عباس.
بين اليوم، حيث حزن المسلمين سِمة، وبين زمن الكوش و»نوستالجيا» الفرح، عودة جميلة إلى الوراء قليلاً. يروي فاخوري، نقلاً عن الشيخ عبد القادر قباني في مذكراته، أن مسلمي بيروت كانوا يستعيرون دار «أبي عسكر» (يونس نقولا الجبيلي) قرب الجامع العمري وسط بيروت، ليقيموا فيها أفراحهم وموالدهم، فيسرجون القناديل وينشدون. ذات مرّة، أحب شاب مسلم من بيروت فتاة مسيحية بيروتية، لكن حال الدين بينه وبينها، فشكى أمره في النهاية إلى مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر. لم يكن من المفتي إلا أن أنشد: «لم أدرِ كيف وصولي للجميل يا ناس... أأصحب القس والخوري أم الشماس... أم ألزم الدير حتى يحضر القدّاس... عسى بصدق اعترافي أمنح القربان... أم انتظر عرفوني: عيد مار الياس؟».
هكذا، كان المولد أبعد من مناسبة دينية تقليدية، هو تراث وعلاقات اجتماعية ومعرفة وثقافة وفرح وبهجة. لمصلحة من إدخال المسلمين، في لبنان وسائر الدول، في حلقات من البؤس الذي لا ينقطع، في وقت هم أشد حاجة لالتماس البسمة الروحانية؟ ثمّة من قتل، ويقتل اليوم، كل ذاك التراث... بسيف بارد.