أثناء «هدنة اليوم» في منتصف حرب تموز تقريباً، عادت رجاء الى منزلها، وخرجت خالية الوفاض، إلا من «إيشارباتها». قالت يومها: «من لا يعرف قيمتها، لن يفهم لما فعلت ذلك». وهذه ليست جملة عابرة، فرجاء متمسكة بحجابها، وقد قامت بينها وبين أغطية الرأس علاقة ود طويلة. غير أن هذا ليس بسبب النزعة الدينيّة، بل لأنها كانت تتكلم عن «إيشاربات الحرير» التي دخلت الأسواق اللبنانية عام 1993 لأول مرة. دخلت من تركيا بدايةً، ثم من إيطاليا وفرنسا، وطبعاً من الصين أيضاً. دخلت «البازار».
بعد سنوات على الحرب، بقيت الذاكرة والنوستالجيّة، والسوق. الحجاب (الإيشارب الحرير) ذو الوظيفة الدينية أولاً، صار كأي منتج آخر، جزءاً من نظام الاستهلاك. لا تعوز الحجة أحداً، ولا يفوته دليل يستقيه من أصحاب محال (الزي الشرعي) لكي يتأكد أن ثقافة المستهلك غزت المجتمعات الدينية. وحسب عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار في كتابه (المجتمع الاستهلاكي): «الاستهلاك صار أخلاق عالمنا، وهو يوشك على تحطيم مرتكزات الكائن البشري». لكن هل القصة قصة استهلاك رأسمالي دائماً؟ بلا شك يتدخل الدين أيضاً. فحسب رجاء، هذا «واجبها الديني الذي تحبه»، بحسب تعبيرها، وربما لذلك، لا يمكنها إلا أن تتورط في هذا كله. السوق الاستهلاكية ملجأها الوحيد رغم أن سوق الحجابات اللا حريرية من قماش عادي أرخص بكثير. لكن، فلنكن واقعيين، تحتاج رجاء إلى ما يعكس صورتها في المجتمع، ورغبتها بالتميز. تحتاج إلى الاستهلاك.
تكثر إيشاربات «التميّز» وأنواعها و «ماركاتها»، كأي منتج آخر، يتعلق بالثياب أو بغير ذلك.
ومنها، بل أفضلُها نوعية الفولارات الفرنسية والإيطالية، وهذا على غرار السائد في العطورات وفساتين السهرة وما شاكل. صناعة الموضة، عرفاً، اختصاص إيطالي. «صنع في إيطاليا»، أليس هذا كافياً لتفسير كثرة الطلب عليه؟ إنها «بيوت الأزياء» العالميّة، عرفاً، ما يجعل أغلى الفولارات ثمناً هي الآتية من هناك. تنافس السوق التركية، هنا، الإيطالية، ولكن بالأسعار لا النوعية. تتراوح مجمل أسعار الفولارات التركيّة (اللاهثة لدخول الاتحاد الأوروبي) بين ٥٠ دولار أميركياً و٣٠٠ دولار، ليكون بمتناول معظم المحجبات. هذا في الحالات الطبيعية العادية للطلب والبيع. أما في الحالات الـ «جنونية» يحصل أن لا تتردد إحداهن في دفع مئات أو آلاف الدولارات مقابل حجاب واحد مع أنه يساوي 300 دولار فقط.
«لا أريد أن أرى أحدهن تلبس نفسه»، لهذا السبب فقط، تجيب إيمان.
كانت تقف أمام البائع وتحارجه بأنها تريد هذا الإيشارب المحجوز لغيرها. أصرت عليه وأصر على رفضه، ثم نظرت حولها، وطبعت ــ لكي لا تعرف باقي الزبونات ما تريد دفعه ــ بأناملها «الذهبيّة»، على الآلة الحاسبة أمامه 600 دولار. يقول صاحب المحال المتوزعة فروعها في لبنان، إن بعضهن يسألن عن أجدد إيشارب حرير، ويتبعه سريعاً السؤال التالي: هل اشتراه أحد قبلي؟ التفرد هو ما تسعى اليه الزبونة للاختلاف عن الأخريات، نتحدث هنا عن «سوق». أورد حادثته مع حالة «مميزة» للغاية. أعجبها إيشارب يبلغ سعره 200 دولار، فسألته عن العدد الذي يمتلكه من الـ«serie»، نفسها في هذا المحل وفي بقيّة الفروع. أجابها بعد حسابات: 4 آلاف دولار. وبلا تردد، طلبتها كلها، وفي اليوم التالي أخذتها جميعها، لسبب واحد لا شريك له: «لا أريد أن يلبسه أحد غيري».
في حوادث مشابهة، يحدث اتفاق مسبق بين صاحب المحل وزبونته الدائمة، أن يعرض عليها البضاعة الجديدة قبل عرضها في المحل، لكن بشرط أن تشتري بما لا يقل عن 10 إيشاربات «ثقيلة». تحدث هذه القصص عندما ينتهي البائع من بيع إيشارباته من فئة الـ«حبة وحدة»، والتي قد تكلف 500 دولار أحياناً. وأحياناً يكون التقسيط هو عونها للحصول عليه. لكن يستدرك «إنها حالات شواذ عن المجتمع بشكل عام، إذ أن أكثرهن يسعين للتميز، لكن بشكل عقلاني». تكثر هذه الحكايات مع البائعين، وبقدر ما تدر عليهم أموالاً، بقدر ما يضرهم قيام أصحاب المحال «الرخيصة»، بسرقة الماركة المتعاقدون معها حصرياً، وسرقة رسمة (النقشة) الحجاب، التي قد يكلف «قالبها» أحياناً 5 آلاف دولار في البلد المصنع، لهدف استنساخها في الصين، ثم بيعه بسعر زهيد جداً.
إنها سوق إذن، حيث تمكن رؤية التغير في السلوك الاجتماعي والاستهلاكي، ليصبح في بعض المواقف متجاوزاً للمعنى الديني. لذلك، يصح القول، يا أختاه، صدقاً، لا يزال حجابك أغلى من دمي، ولكن بات أغلى من معاشي أيضاً!