فجأة، انقلب كل شيء. نبتت «الفلل» الفخمة في أحياء قريتنا بسرعة قياسية لم تتعدّ الخمس سنوات. حتى بات من السهل القول بأنه مع كل صباح، يستيقظ السكان على «فيلا» جديدة. هذه التي تأتي على حساب بستان الليمون أو الخرمى أو الزيتون أو على حساب أماكن كان من الممكن أن تكون ملعباً أو حديقة أو مستوصفاً.
تحتلّ تلك «الفلل» أحاديث الناس لمدّة، ثمّ تخفت وشيئاً فشيئاً تنتهي، ولكن أكثر تلك العمارات التي بقي أهل القرية يتحدثون عن قبحها وضخامتها، هي تلك التي شيدت منذ عام تقريباً، وأخذ بناؤها وقتاً أطول من المعتاد، أبقى الناس على أعصابهم بانتظار نتيجة كلّ هذا الحفر و»النقر» ونقل الباطون والحديد في أحياء الضيعة الضيقة.
كرهها الناس لأنها أكلت الذاكرة هناك. أكلت حيوات وشردّت أخرى، كما حدث مؤخراً مع أحد الجيران، الذين هربوا من بيتهم الصغير الملاصق للفيلا الكبيرة إلى غرفة بالإيجار، قدّمها لهم أحد أبناء الحي. الفيلا نفسها التي ساقت مع البيت المتواضع أيضاً حديقة من شجر الليمون، كانت حين تزهر في الربيع تملأ رائحة الشارع بأكمله. وحين يأتي الموسم، يقطف المارون من ثمارها الطازجة الشهية.
أغلقت الفيلا مجال النظر لكثير من البيوت الصغيرة، الجبال التي وراءها صارت تُرى بصعوبة بالغة، حتى لو وقفت على السطح، فسترى الفيلا أوّلاً، ثمّ الجبال. لم يعد المشهد كما كان سابقاً مريحاً للنظر وللقلب، فقد بدت الفيلا وكأنها إضافة مركبة، غير متناغمة مع ما حولها. مهما حاولت تلك الأبنية أن تتآلف مع محيطها، تبقى غريبة. يرمقها الذاهب والآتي بنظرات الاستحقار والكره. لا تشبهنا. ليست جميلة. هي تظهر الفرق فقط. الفرق بين غنيّ وفقير، أو من يعتبره أهل القرية محتالاً، فلو لم يكن كذلك لما تمكن من جمع كلّ تلك الأموال بنظرهم.
ما زال في نفوس أهل القرية بعض من رواسب التاريخ، بقايا أيام الحكم العثماني، حيث كان الاقطاعي ملك الدنيا وسيّدها. الآمر الناهي. المتحكّم في رقاب العباد وأموالهم. تسمع ذلك في أحاديث الصباح والجلسات والسهريات. وإن كان لم يعد للـ»بيك» من وجود، ولكن أحفاده واحفاد أحفاده ما زالوا يظنون أنفسهم «بكوات». وهناك من حصد الثروة بعرق جبينه، بعدما هاجر إلى البرازيل أو إلى المكسيك أو إلى فنزويلا وعاد، واشترى نصف أملاك القرية، ليضيفها إلى النصف الآخر الذي ورثه عن أجداده. رحل زمن الإقطاع، ولكن كلّ مظهر من مظاهره، كالفيلا الباسقة في وسط حيّ من أحياء القرية، العنيدة المتفوقة على جميع البيوت المتواضعة الأخرى، توقظ اللاوعي الطبقي النائم في نفوس الناس ليعودوا من جديد فلاحين و»بكوات»، وإن في الخيال والنفس فقط.
مع ذلك، ثمة من يحبّذ وجودها، إذ يرون فيها مظهراً من مظاهر الحضارة والتمدن والجمال. مظهراً جاذباً للزوار، يعطي صورة مختلفة عن صورة عكار النمطية أي المنطقة المحرومة. قد تختلف وجهات النظر، ولكنها تبقى هذا الكائن المستجد الذي يغير معالم الذاكرة والطفولة، حيث أنّ أحياء القرية القديمة لم تعد كما كانت حين كنا أولاداً، بل تغيرت كثيراً، لا يهمّ إن كان ذلك للأفضل أو للأسوأ. فقط، هنالك شيء ما قد تبدّل، وهو لا يبعث على الراحة.