الأمر يفوق طاقاتنا. في الماضي القريب، كنا نجد صعوبة بالغة في استيعاب الأرقام المالية الضخمة التي تُدفع للاعب كرة قدم. في عالم كرتنا العربية لا يمكن أن نتقبّل الملايين أو حتى المليون بالبساطة التي يتعامل بها رجال المال والأعمال في الغرب. مساحة الأرقام تتمدد وتتزايد، تزداد الأصفار في آخرها. بات الأمر تقليدياً، وصار 10 ملايين رقماً قليلاً مقارنة بالملايين التي تصرف. الوضع استمر سنوات عدّة حتى لاح في الأفق شيء ما، بدا وكأنه المنقذ. ظهر مسمّى قانون «اللعب المالي النظيف». أما التطبيق فليس «نظيفاً» دائماًإصلاح الشأن العام وضبط السيل الفائض من النقود هو الهدف من هذا القانون. هكذا يقولون. لكن هل ستعود الأرقام التي تصرف في هذا المجال الى الحد الذي يمكن أن يصدّق؟ هو بالطبع حلمٌ من الصعب أن يتحقق في ظل السطوة المالية الكبرى لمؤسسات كرة القدم. هذا طريف حقاً. وسنوات قليلة كانت كفيلة بإطفاء هذا الحلم. الأندية مستمرة في الصرف أكثر من المعتاد حتّى. ظهرت أرقام جديدة. 200 مليون يورو وأكثر في الصفقة الواحدة. قُتِل الأمل في العدل المالي بسرعة فائقة. ميشيل بلاتيني، الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم كان أول من طرح هذه الفكرة في 2010، باعتبار أن العديد من رؤساء الأندية أبلغوه برغبتهم في ضبط الأمور المالية لجميع الفرق الأوروبية. فيما وُصف آنذاك بتطبيق العدالة في أوروبا، وهو ما وافقت عليه إدارة الاتحاد، وبدأوا بوضع قواعد ذلك القانون. تبيّن لاحقاً أن بلاتيني نفسه فاسد. مفارقة، لا؟ في 2012 أي بعد العمل لمدّة عامين، قدّموا الشكل النهائي لهذا القانون. بداية من 2013 خضعت كل الأندية التي تشارك تحت شعار «يويفا» لفحص مالي إجباري على مدخلاتها ومخرجاتها في مدّة تقييم تصل إلى 3 سنوات، على أن يتم توقيع غرامات وعقوبات للمخالفة منها أو للتي لا تصحّح أوضاعها المالية في المدّة المحددة. محاولة تخفيض ما يتم إنفاقه إجمالاً من الأندية الأوروبية، هذا كان الغرض الأساس من هذا القانون والذي وصل في 2011 إلى 1.7 مليار يورو، وبالفعل آتت قواعده ثمارها على نحوٍ سريع، وانخفض المعدّل إلى 400 مليون يورو فقط بحلول 2014.
في 2016 قدّر الربح الإجمالي لـ 20 فريقاً بالبريميرليغ بـ 3.4 مليار يورو


انتقلنا الى المرحلة الثانية. تحركت «موجة» من التعديلات على القانون في 2015. تدخل الذين «فوق». الحيتان التي هي أكبر من الحيتان العادية. سمحت إدارة الاتحاد الأوروبي بوجود استثناءات في القانون بما يسمح للأندية وملّاكها بالاستثمار في الأعمار السنية الأقل والفرق غير الأولى، النسائية على سبيل المثال، وكل ما يخصّ الأكاديميات والملاعب ومقرات التدريب، لتصبح كل هذه النفقات خارج إطار التقييم المالي، بجانب وضع أسس جديدة للاستثمار في الأندية على المدى الطويل. بدأت «الزعبرة». وبعد التطبيق الأولي للقانون. تغيرت رؤى إدارات الأندية في أوروبا وبدأ عملها يشمل الجانب طويل المدى. فبعد أن كان لزاماً عليها توفيق الأوضاع المالية خلال مدة قصيرة هي 3 سنوات فقط، مع سماح بهامش خسارة لا يتخطى 45 يورو، بات هناك سماح بوجود خطة طويلة الأجل تسمح لرؤساء الأندية وملاكها بصرف أي قيمة مالية يريدون، شرط وضع خطة تُعرض على الهيئات الخاصة بالاتحاد الأوروبي تُفيد بكيفية تحقيق التعادل في مدة محددة وبهامش خسارة لا يتعدى 30 مليون يورو، والذي سيغطيه رئيس النادي من نفقته الشخصية. إذاً العيب ليس في قانون اللعب المالي النظيف ولا في مُطبقيه، بل في التصوّر الذي اعتقدنا به على أنه سيكون المنقذ. لا يوجد شيء اسمه منقذ. الظن الخاطئ كان في أن بتطبيقه ستعود الأرقام الفلكية في الصفقات إلى أرقام بسيطة يسهل تداولها. التصحيح يبدأ من التغيير، وأحد أهم الأسس في عملية التغيير تلك سيكون في تغيير اسم القانون نفسه ليتناسب مع دوره الحالي في اللعبة. علينا أن نكون واقعيين، لم يكن القانون لوقف الهمجية الرأسمالية، بل كان لتنظيم هذه الهمجية.

في 2016 قدّر الربح الإجمالي لـ 20 فريقاً بالبريميرليغ بـ 3.4 مليار يورو(أرشيف)


العرب في الواجهة
حالات عدّة من اللبس أصابت الجماهير بخصوص الصفقات التي تبرمها أندية معينة، على رأسها باريس سان جيرمان الفرنسي ومانشستر سيتي. الناديان المملوكان لشخصيات عربية، هما الشيخ منصور بن زايد مالك الأول والقطري ناصر الخليفي مالك الثاني. يستحوذان على أغلب الجدل بخصوص مصاريفهما. يعود ذلك إلى كونهما قوى مالية ضخمة خارج إطار كرة القدم. التبرير، أنهما يقومان بدفع كل نفقات الناديين من أموالهما الشخصية. رؤية «الخليفي» و«منصور» كقوى مالية يجب أن تؤخذ في الاعتبار ولا تُهمل. في ظل التعديلات الجديدة للقانون الذي يحكم الاستثمار الكروي في أوروبا الآن، تحركت الإدارة في اللعبة إلى عمل تجاري واقتصادي ضخم، بالتالي كون كليهما ناجح في مجاله الاستثماري فهذا يساعدهما جداً على القيام بالدور الأمثل بين جدران أنديتهما. ولكن هذا رأسمالي إلى درجة لا تُحتمل، وتالياً ليس عادلاً، ولا يصنع شغفاً، ولا يمكن القبول به. أي إحداث هوة بين فريق ما والفرق الأخرى، ذلك أن الطبقات يجب أن تزول في المجتمعات ولا تعمم.
في السنوات الأولى لملكية الشيخ منصور كانت هناك خسائر تُقدر بـ 197 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم قياسي صعب تكراره في أي مكان بالعالم. الخطة الدائمة لمنصور أو من مثله تعتمد على البطولات، بمعنى أنه مهما كانت قيمة المصروف، يمكن تعويضه عن طريق تحقيق البطولات، وجمعها مع العوائد العادية. ومع حلول عام 2015، أي بعد الحصول على لقب الدوري الغالي في 2011، كانت الأرباح الخاصة بال«سيتيزنس» قبل خصم الضريبة، نحو 10 ملايين جنيه إسترليني، أي إن الخسائر التي تكبدها النادي في البداية قد تم تداركها بالفعل وتم تحقيق التعادل بل بهامش ربح أيضاً. موسم 2016/2017 وعلى الرغم من أن السيتي لم يحرز أي لقب، نجح بتحقيق إيرادات تزيد على 400 مليون جنيه إسترليني لأول مرة في تاريخه أما قيمة الأرباح، فقد بلغت 1.088 مليون جنيه إسترليني على الرغم من أن التقرير السنوي للنادي يغطي مدة 13 شهراً، الأمر الذي كان له تأثير على الربحية. إذاً، الأمر ليس مجرد شغف وبرستيج، إنما هو جشع يتضاعف على حساب اللعبة، ويدور حول قانونها «النظيف». القانون الذي استطاع باريس سان جرمان «التحايل» عليه وإبرام صفقتين بنصف مليار دولار، بحجة الإعارة والترويج لمونديال قطر، دفعت للمنتقلين بدلاً من أن تصنف في عقود رسمية. أكثر من ذلك، عاد باريس سان جيرمان وعوّض قيمة انتقال نيمار التي تجاوزت 200 مليون يورو، من العقود التجارية وحقوق الرعاية الإضافية، كما حصل على نسبة من حقوق بيع صور اللاعب واستخدامها في الترويج للنادي. هناك بالطبع مبيعات قمصان اللاعب، إذ تهافت مشجعو باريس سان جيرمان بصفة خاصة، وعشاق كرة القدم بصفة عامة، على المتاجر لشراء القمصان الجديدة لنيمار. هؤلاء هم الضحايا الأساسيون.
في أية حال، الأمر ليس عربياً وحسب. في موسم 2017/2018 حصدت أندية بطولة الدوري الإنكليزي الممتاز العديد من الأرباح المهولة عن بطولة البريميرليغ، جنتها من العديد من الحقوق التجارية، وحقوق البث التلفزيوني. بلغت أرباح جميع أندية البطولة مبلغ 2.42 بليون إسترليني. وجاء نادي مانشستر يونايتد كأكثر نادٍ إنكليزي حصولاً على الأرباح متفوقاً على مانشستر سيتي الذي حصد في ذلك الموسم لقب بطل الدوري. ذلك بسبب أن لديه مباراتين تمت إذاعتهما بشكل مباشر داخل المملكة المتحدة بواقع 28 مباراة، أكثر من فريق مانشستر سيتي الذي تمت إذاعة 26 مباراة بشكل مباشر له داخل إنكلترا.

ميلان «مظلوم»
وبعيداً عن الدوري الإنكليزي، أحد أوضح النماذج لرأسمالية كرة القدم في مراحلها المتقدمة، نعود إلى إيطاليا، التي كانت كذلك مطلع تسعينيات القرن الفائت. بعد استبعاده من الدوري الأوروبي، ميلان عاد من جديد. ألغي قرار استبعاده عن المشاركة في مسابقة الدوري الأوروبي «يوروبا ليغ»، رغم إقرارها بمخالفته قواعد اللعب المالي النظيف، خصوصاً النقطة الخاصة بالتوازن بين مصروف النادي ودخله. الأمر ليس مالياً فقط. شبكة «ميدياست» الإيطالية صرّحت أن الوضع سيكون مهماً كذلك على الصعيد الفني للفريق، إذ قد يضمن استمرار كلٍّ من ليوناردو بونوتشي وسوسو في صفوف النادي اللومباردي، أي إنه قد يضطر إلى بيع نجومه ليعادل «ميزانه التجاري». قصة الأزمات في ميلان تعود إلى قرار سيلفيو بيرلسكوني مالك النادي التاريخي بيعه إلى رجل الأعمال الصيني يونغ هونغ لي مقابل 740 مليون يورو. ولكن الأخير وفّر أموال الصفقة عن طريق قرض من شركة إدارة أموال تدعى «إليوت ماناجمينت». أمر اعتاد «لي» على فعله ولكنه أصبح بلا سيولة مالية ولا يستطيع تغطية ما عليه من قروض. صحيفتا «نيويورك تايمز« و«كورييري ديلا سيرا»، أكدتا حينها أن ممتلكات «لي» وأصول شركاته سيتم عرضهما للمزاد، وكذلك بدأت السلطات الصينية تحقيقاً حول إخفاء شركته إفلاسها لشهور. ميلان خالف قانون اللعب النظيف بعدما أنفق في الميركاتو الماضي ما يقرب من 250 مليون يورو، لكنه فشل في تغطية هذه القيمة وفشل أيضاً في التأهل إلى دوري أبطال أوروبا. ميلان الوحيد خلال هذه الفترة، عوقب. وأفرج عنه، بعدما خرج من «العباءة الصينية»، التي يحب الأوروبيون عموماً أن تتمدد في أوروبا، لعدة أسباب. لكن، السيتي وباريس سان جيرمان وغيرهما من القوى المالية في العالم لديها الفرصة في النهوض لما لديها من إمكانات مالية هائلة بطابع «نِفطي»! ما يميزهما أنهما يستطيعان الدفع من نفقات الرؤساء مباشرة بلا أي حاجة لقروض أو ضمانات عند البنوك، ما يجعلهما في ميزة حقيقية، لكنها ليست بعيدة عن متناول الأغلبية المحيطة سواء في إنكلترا أو غيرها. إنها فرق لمصلحة الأغنياء، على نحوٍ لم يعد يحمل الالتباس.

التلفزيون كسلاح ضدّ الفقراء
قبل سنوات تمكن الاتحاد الإنكليزي لكرة القدم من وضع سياسة جديدة لتوزيع أرباح بيع حقوق بث البطولة. فرضت هذه السياسة بجزء كبير التكافؤ بين الأندية، لكنها كذلك زادت من مشاكل بعض الأندية المالية لأنها شجعت اللاعبين على طلب مبالغ مالية أكبر، طمعاً في ما يحصل عليه النادي من عوائد بث (الممول الأساسي في نهاية العملية هو الجمهور). هذه النعمة تحولت نقمة لم يعتدل حالها إلا بتدخل القانون الأخير من الاتحاد الأوروبي. في 2016 كشفت الأندية الإنكليزية عن حساباتها المالية. تبيّن وجود أرباح برقم قياسي جديد يتم تسجيله في تاريخ كرة القدم. قُدّر الربح الإجمالي عن 20 فريقاً داخل المسابقة ب 3.4 مليار يورو، إلى جانب خروج 14 نادياً من أصل 20 من دون أي خسارة. لكن بعد موافقة الأندية على توقيع اتفاقيات اللعب النظيف التي وضعت قواعد صارمة حول رواتب اللاعبين والعاملين بالنادي في الجوانب الإدارية والتقنية، خسر 12 نادياً من أصل 20. ذلك دليل على التحول الواضح في الشؤون المالية للأندية. كما خلق ما يؤرق إدارات الأندية في إنكلترا. وفي تلك المرحلة بالتحديد، خرج القانون من إطار ضبط الصفقات وأسعارها فقط، بل تحرك ليصبح أحد العوامل الرئيسية المساعدة في تحقيق أرباح رأسمالية كبيرة لصالح الأندية، كما كان الحال في الشأن الإنكليزي خلال العامين الماضيين. فقد بيعت حصة كبيرة في أسهم كريستال بالاس في 2016. ومن المتوقع أن يحصل المساهمون في مدينة سوانزي على عدة ملايين من خلال بيع أسهمهم إلى اتحاد مستثمرين من الولايات المتحدة الأميركية، الذين رأوا أن قانون اللعب المالي النظيف هو عامل الجذب الرئيسي للاستثمار في مجال كرة القدم.