لم تستثنِ الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة بريطانيا، في مساعيها لإحكام الحصار على روسيا، أيّاً من القطاعات الحيوية في هذا البلد، ومن ضمنها الرياضة. إذ رأت واشنطن ولندن في الحرب فرصة ثمينة لاستكمال مشروعهما القديم المتمثّل في خنْق الرياضة الروسية، وإجبار اللجان والاتّحادات الدولية على منْع أندية موسكو ومنتخَباتها وأفرادها على حدّ سواء من المشاركات الخارجية... وذلك ما كان بالفعل. اليوم، وبعد مرور عام على الحرب، وجدت اللجنة الأولمبية الدوليّة نفسها محرَجة، ومضطرّة لمراجعة تلك العقوبات، إلّا أنها اصطدمت بضغوط غربيّة هائلة تَدْفع في اتّجاه إدامة الحصار، الذي يبدو أنه سيتمدّد إلى أجل غير معلوم
«فصْل السياسة عن الرياضة»، هو المبدأ الأساسي الذي تنادي به الاتّحادات الدوليّة على اختلافها، ولكنها غالباً ما تُخالفه لاعتبارات عدّة، أهمّها تطبيق أجندات دول غربية، على رأسها أميركا وبريطانيا. استهداف الرياضة الروسية بشكل واضح، وخلافاً للقانون الأولمبي، لم يبدأ من اليوم، بل ظَهر بشكل جليّ قبل حوالي 10 سنوات، وتحديداً عندما فُتحت قضية «التنشيط الممنهج» للرياضيين الروس قُبيل «أولمبياد سوتشي» الشتوي عام 2014. حينها، اتُّهمت موسكو بـ«تطبيق برنامج منشّطات على نطاق واسع» بأمر من الرئيس فلاديمير بوتين بين عامَي 2011 و2015، ليُمنع الرياضيّون الروس من المشاركة في دورات الألعاب الأولمبية بين عامَي 2016 و2022 إلّا تحت العلم الأولمبي. إلّا أنه سرعان ما بدأت تتكاثر الشكوك حول حقيقة تلك «الفضيحة»، حين فرّ مدير المختبر الروسي لمكافحة المنشّطات، غريغوري رودتشنكوف، سنة 2016، إلى واشنطن بذريعة «الخوف على أمنه الشخصي»، ليَعقب ذلك بعد أربع سنوات طرْح الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قانون «غريغوري رودتشنكوف لمكافحة المنشّطات»، والذي يسمح للمحاكم الأميركية بإصدار أحكام جنائية بتهمة تعاطي المنشّطات في الأحداث التي يشارك فيها الرياضيون الأميركيون. كلّ هذه الملابسات لم تدقّق فيها «اللجنة الأولمبية الدولية»، تماماً كما لم تُعِر اهتماماً للبيانات الرسمية الروسية.
عام 2022، حاولت الولايات المتحدة معاودة الكَرّة نفسها مع الصين، عندما قاطعت «أولمبياد بكين» الشتوي ديبلوماسياً، من دون أن تنجح في إقناع غيرها من الدول بالمقاطعة، فنجح «الأولمبياد» وسقطت المحاولة الأميركية. وفي أعقاب هذه النكسة، ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، عادت أميركا، ومعها بريطانيا، إلى توسيع دائرة الحصار على الرياضة الروسية؛ إذ ثُبّتت معادلة منْع مشاركة الرياضيين الروس في «الأولمبياد» إلّا تحت العلم الأولمبي، كما مُنع المنتخَب الروسي الأوّل لكرة القدم للرجال من استكمال تصفيات المونديال، وبالتالي لم يُسمح له بالمشاركة في منافسات كأس العالم في قطر. كذلك، حُظرت على الأندية الروسية المشاركة في البطولات الخارجية ومن بينها «دوري أبطال أوروبا»، والدوري الأوروبي «يوروبا ليغ»، فيما أُجبرت الأندية الرياضية خارج روسيا على عدم ضمّ أيّ لاعب روسي أو لاعبة روسية إلى صفوفها.
شكّلت بريطانيا لوبياً كبيراً هدفه منْع الرياضيين الروس من المشاركة في الألعاب الأولمبية تحت علم بلادهم


على رغم كلّ ما تَقدّم، لم تتحرّك الاتّحادات واللجان الرياضية الدولية لتطبيق مبدأ «فصْل الرياضة عن السياسة»، والذي يقضي بإيقاف أيّ جهة أو اتّحاد يَثبت «خلطه» للسياسة بالرياضة. إلّا أنه اليوم، بدأت تعلو أصوات من داخل «اللجنة الأولمبية الدولية» بالمطالبة بتصحيح تلك الأخطاء، وفق ما أكّده رئيس اللجنة، توماس باخ، الذي أعلن، قبل أيام، «(أنّنا) نبحث عن مخرج» يسمح للرياضيين من روسيا وبيلاروس بالمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية عام 2024 في باريس، على اعتبار أنه «لا ينبغي أن يُحرم أيّ رياضي من المشاركة بسبب جواز سفره». وتزامَن ذلك مع بيان لـ«المجلس الأولمبي الآسيوي» اقترح فيه مشاركة الرياضيين من روسيا وروسيا البيضاء في التصفيات المؤهِّلة إلى «أولمبياد باريس»، فيما بدا لافتاً قول رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو: «أعتقد أنها لحظة رياضية، ولا ينبغي لنا أن نَحرم الرياضيين من المنافسة». لكن هيدالغو عادت وتراجعت عن تصريحها تحت الضغط، بعد أن خاطب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مطالباً إيّاه بمنع استقبال الرياضيين الروس والبيلاروس في «الأولمبياد».
واستدعى كلام «الأولمبية الدولية» حملة مضادّة شرسة أميركية - بريطانية. إذ اعتبرت وزيرة الثقافة البريطانية، ميشيل دونيلن، أن اللجنة تبدو في «عالم بعيد عن واقع الحرب الذي يشعر به الشعب الأوكراني»، مؤكدة أن بريطانيا ستعمل الآن مع «الدول ذات التفكير المماثل» لمعارضة إعادة دمْج الرياضيين الروس. كذلك، هدّدت أوكرانيا بمقاطعة «ألعاب باريس» ـــ وهو موقف غير قانوني بحسب ميثاق «الأولمبية الدولية» ـــ مشدّدةً على لسان وزير الرياضة فيها على أنه «ما دامت الحرب مستمرّة في أوكرانيا، فلا ينبغي للرياضيين من روسيا وبيلاروس المشاركة في المسابقات الدولية»، فيما أعلن وزير الرياضة البولندي، كاميل بورتنيشوك، أن أكثر من 40 دولة قد ترفض المشاركة في «أولمبياد باريس»، وهذا ما ظهرت بوادره فعلاً في مطالبة أكثر من 30 دولة، «الأولمبية الدولية»، بعدم السماح للرياضيين الروس والبيلاروس بالمشاركة.
إزاء ذلك، شدّد رئيس «الأولمبية الروسية»، ستانيسلاف بوزدنياكوف، على ضرورة أن يكون الرياضيون الروس قادرين على المشاركة في الألعاب الأولمبية من دون قيود. ورأى بوزدنياكوف أن مشاركة هؤلاء من دون رفْع علم بلادهم، تعني «قراراً يحمل طابعاً سياسياً غير مقبول على الإطلاق للحركة الأولمبية»، مشيراً إلى أن «الميثاق الأولمبي ينصّ على أن جميع الرياضيين يجب أن يشاركوا على قدم المساواة». والجدير ذكره هنا أن روسيا متفوّقة في المجال الرياضي بالفعل؛ إذ تحتلّ المرتبة الثانية عالمياً في عدد الميداليات الأولمبية، وهو ما يشكّل واحدة من ركائز الانتماء القومي والكرامة الوطنية، لا يبدو أنها تروق لكلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا. لكن على رغم موقف بوزدنياكوف، فإن اللجنة التي تُعتبر صاحبة السلطة الوحيدة في تحديد المشاركين في أيّ دورة أولمبية، رضخت للضغوط أخيراً، معلِنةً، في بيان، أن العقوبات المفروضة على روسيا «غير قابلة للتفاوض، وبالتالي سيشارك الروس تحت العلم الأولمبي»، مخالِفة بذلك شرعتها الداخلية، وفاتحةً الباب أمام مزيد من التجاوزات مستقبلاً، ولاسيما من قِبل الأميركيين والبريطانيين الذين يريدون تطويع الرياضة بما يتناسب مع مصالحهم.