الإشكال الكبير الذي عرفته قمّة العهد والأنصار في ختام الدوري اللبناني لكرة القدم لم يكن الأول، ولن يكون الأخير بالتأكيد في الرياضة اللبنانية، ولو أن الرأي العام حوّل الحادثة الى ما يشبه سابقةً وكأنّ ملاعب لبنان لم تشهد ابداً هذا النوع من الشغب الجماهيري.فعلاً، تحوّل «هاشتاغ» المباراة الى الـ«تراند» الأول على «تويتر» لأكثر من 24 ساعة. سياسيّون وفنّانون ومواطنون لا تربطهم علاقة بالرياضة أرادوا التعبير عن المشهد الذي تابعوه عبر شاشة التلفزة، فكانت التعليقات بمعظمها سلبية، وكأنّ ما حصل منفصلٌ عن الشارع اللبناني وعن الرياضة اللبنانية التي اعتادت هذه المشاهد منذ زمنٍ طويل.
واللافت أكثر أن وسائل إعلامٍ خارجية تناولت ما حصل في مجمّع الرئيس فؤاد شهاب الرياضي في جونية، وكأن المشهد غريب عن عالم الكرة الذي صُدم أول من أمس بما فعله مشجّعو أينتراخت فرانكفورت الألماني في مدينة نابولي الإيطالية بإحراقهم سيارات الشرطة واعتداءاتهم على كلّ من واجههم، وذلك على هامش ما عُرف بأرقى مسابقة كروية قارية أي دوري أبطال أوروبا.

لا الأولى ولا الأخيرة
الواقع أن حالة الاستغراب يجب أن تسقط، فمنذ تسعينيات القرن الماضي حفلت الرياضة اللبنانية بالإشكالات الدموية، ومعظمها بسبب التعصّب الرياضي ـ المناطقي، وسط الانتماء الأعمى لبعض المشجعين، فكانت مباريات الأنصار والنجمة والرياضي والحكمة على سبيل المثال لا الحصر أشبه بساحات لتصفية الحسابات عبر معارك من كل الأنواع.
هذا ما شهده الموسم الحالي أصلاً في أول لقاء بين الغريمين التقليديين في كرة القدم اللبنانية، فأقيمت المباراة على مدار يومين، ما أعاد المشاهد القديمة التي كانت ضحيّتها ملاعب عدة في البلاد.
واقع الرياضة اللبنانية يعكس حالة الاصطفاف السياسي والانقسام الطائفي أو المذهبي الحادَّين في البلاد


الصورة نفسها عرفتها كرة السلة في نيسان من العام الماضي عندما توقفت مباراة قطبيها في أواخر الربع الثالث إثر اقتحام جمهور الرياضي أرض الملعب وتواجهه مع القوى الأمنية، ومطارداً لاعبي الفريق الخصم، فكانت النتيجة انسحاب الحكمة من اللقاء.
فعلاً هو المشهد نفسه الذي عرفه ملعب غزير في عام 2014 بعد قيام لاعب الحكمة الأميركي ديواريك سبنسر بتسجيل سلة استعراضية بعدما كان قد قرر إنهاء المباراة بطريقة ودية، ما دفع مواطنه لاعب الرياضي لورن وودز إلى التوجّه إليه باللوم، لتحتدم الأمور، وتماماً كما حصل بعدها عندما توقفت مباراة «الدربي» إثر تضارب وإشكال كبير بدأ بين لاعب الرياضي علي محمود ولاعب الحكمة الأميركي تيريل ستوغلن اللذين تبادلا اللكمات على مرأى من الجميع. كما شهدت اللعبة أيضاً إشكالات متفرّقة شهيرة؛ أحدها بين نجم الرياضي إسماعيل أحمد والجمهور الحكماوي، فمُنع الجمهور من حضور المباريات.

ثقافة خاطئة
بقدر عدم استغراب أن تكون هذه المشاهد حاضرة في مواجهات أندية عرفت منافسة شرسة منذ الستينيات والسبعينيات مثل الأنصار والنجمة، والتسعينيات مثل الرياضي والحكمة، فإن ظهورها في مواجهاتٍ أخرى ليس مستغرباً أيضاً، والسبب هو أن رياضتنا هي جزء من المشهد اللبناني السلبي غالباً، وتتأثّر في ما تعرفه البلاد من خضّات أمنية وسياسية واقتصادية، تنعكس ضغطاً على أطباع الجماهير، فتكون النتيجة توتراً وعصبية وشغباً وأعمالاً تخريبية.
بالفعل، واقع الرياضة اللبنانية يعكس حالة الاصطفاف السياسي والانقسام الطائفي أو المذهبي الحادّين في البلاد، وهي ما تعكسه تعليقات المشجعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً اتهامات بعض المسؤولين لبعضهم البعض في أحيانٍ عدة، رغم أن هناك مفارقة وهي أن الفرق التي تفرز مشاهد طائفية غنيّة بالموشحات غير الرياضية تستعين بلاعبين من جميع الطوائف والمناطق.

(طلال سلمان)

إذاً، هي ثقافة سائدة تنمّ عن مفهوم خاطئ للتشجيع تنطلق من عدم احترام الخصم، جمهوراً كان أو لاعبين، فيكون التعبير بشتمه وإهانته ووصفه بأبشع الكلمات والتعابير، لا بل إن الهجوم يطال أيّ رأي يتعارض مع رغبة مشجعي هذا الفريق أو ذاك الذين يريدون دفع الجميع الى التحيّز مع فريقهم، وهو أمرٌ تؤجّجه تصريحات واتهامات من يفترض أن يكونوا في موقع المسؤولية، فيجرّون الجماهير الى أفعالٍ خاطئة بدلاً من القيام بدور ضابط الإيقاع وتوجيه جمهورهم نحو ما يمكن أن يفيد فرقهم ويعزّز مكانتها ويخدم مصلحتها.
باختصار، تخلق ثقافة الشتم السائدة في المدرّجات اللبنانية جوّاً متشنّجاً على أرض الملعب، وتحوّل المباراة إلى قنبلة موقوتة تهدد سلامة الجميع في الملعب وحتى السلم الأهلي في البلاد، وصولاً إلى الفتنة العامة في وطنٍ يعيش شعبه أسرى انتماءاتهم الطائفية والمناطقية والسياسية.
هي رواسب التقاطع السياسي وتسرّب التطرّف الانتمائي الى مدرجات التشجيع المفترض أن يرتكز على أسسٍ وشروطٍ وحدودٍ وحواجز، ففي العديد من الدوريات الكبرى، سواء في كرة السلة أو كرة القدم، تعدّ مؤازرة الفرق الرياضية ثقافةً مجتمعية بحدّ ذاتها، تعكس صورة الشعب ومحبي الفرق والمجتمع بشكلٍ عام، إذ إن الرياضة هي منظومة متكاملة لبناء الجسم والعقل واحترام الذات وتهذيب السلوك، ممزوجة بمتعة التنافس الأخلاقي واحترام حقوق احتفال أنصار الفريق الفائز، وذلك بعيداً من تفاقم التعصّب الأعمى والتشجيع اللاحضاري.
الثقافة الرياضية هي تقبّل فكرة الفوز والهزيمة بروح رياضية وتقبّل النقد، وهي المسائل التي لم تلقَ قبولاً في مناسباتٍ عدة بحكم التعصّب الذي يبرّر أي خسارة عبر إلقاء اللوم على الحكام واتحاد اللعبة والطقس وأرضية الملعب والجمهور المنافس، أو يذهب الى ردّة فعلٍ عنيفة تؤذي الحجر والبشر، تماماً كما حصل الأحد الماضي.