دفتر شروطٍ أخلاقي و«إتيكيت» للتشجيع. ثمّة من يريد أن «يُهذّب» الجمهور في الملاعب، وأن يتحكّم بأعداده ووقت حضوره وكيفية سيطرته على نفسه خلال المباريات. سُلطةٌ فوق سُلطة، تريد تغيير سلوك المشجعين، وتدفعهم إلى هجرةٍ جديدة. الأصوات ممنوعةٌ إلّا بما يتناسب مع الآداب العامّة غير الموجودة أساساً.عودةٌ إلى العصور الوسطى. آدابٌ وسلوكيّات لـ«نظامٍ إقطاعيّ» يضع نفسه في مستوى مختلف عن الطبقات الاجتماعية الأخرى. بيئة يحاول الكثيرون من هذه الطبقات التمثّل بها على أساس أنّها أرفع، و«أبيض». طبقةٌ مُخمليّة، لا تُشبه الطبقة الاجتماعية التي يأتي منها الجمهور. الملعب، مهما بلغت ضخامته وكمّ الأموال التي تُصرف عليه. بغضّ النظر ما إذا كان بسقفٍ متحرّك أو فوقه «لوح توتيا»، أو بلا سقف. مُكيّف أو متروكٌ للحرارة الطبيعية. بإضاءة أو بدون. على أجود أنواع العشب، أو على تراب الأرض، هو مساحة لإعادة تعريف الطبقات الاجتماعية، بين الجالسين على كراسٍ فخمة مريحة، حولهم موائد وموظّفون، وزجاجٌ عازلٌ للصوت أحياناً، وبين الجالسين على الباطون، أو على بعضهم، تحت أشعة الشّمس أو المطر، وبلا حمَّامات.
وطالما أن الحديث عن العصور الوسطى، فمع التقدّم في التاريخ، لا بدّ من إعادة التذكير بأسباب وجود كرة القدم ومتابعتها (وهي بالمناسبة، واحد من المراجع للمقارنة بين كرة القدم للرجال والنساء). من بين أهم الأسباب، العدائية والخشونة البدنيّة. صحيحٌ أن الحديث هنا عن ما يُقدّمه اللاعبون على أرض الملعب، ولكنّ القصد منه هو ما يُشاهده الجمهور. الرجال لا يريدون مباراةً هادئة، بكل الأشكال، وكلّما زاد «العنف» فيها، كانت أكثر «مُتعة». لذلك، تكسب المباريات الكبيرة بين فرق المدينة الواحدة «ديربي»، أو «كلاسيكو» بين الناديين الأكبر في البلد، أهميّة لدى الجمهور، ولو كان الفريقان لا يتنافسان على أي لقب. المشجّع ينتمي إلى كيان النادي، والتشجيع بالنسبة إليه طريقة للدفاع عن هذا الكيان، وعليه، هو يريد أن يرى من اللاعبين ما يراه في نفسه، ولهذا يكسب اللاعب «الشرس» مكانةً لدى الجمهور، حتّى ولو كانت إمكاناته الفنيّة متواضعة.
من هنا، فإن الأدبيات التي تتحلّى بها المجتمعات، لا تنطبق على مدرجات الملاعب، هذه لها قوانينها الخاصّة، ولا يُمكن أن «تُهذَّب»، شرط ألّا تتعدّى بعض الحدود التي يرسمها المشجّعون أنفسهم. والملعب ـ اللبنانيّ خاصةً ـ هو مساحةٌ من المفترض أن تُرحّب بأشخاصٍ يعترضون على كل شيء، وهذا الشيء ليس من الضروريّ أن يكون رياضياً، بل حياتياً بشكلٍ عام. اعتراضٌ على السُّلطة بكل أشكالها، وعلى القوانين، وعلى الدولار، بل على الهزّات أيضاً، أو هروباً منها. مساحةٌ بعيدة عن الأبنية والشوارع، وهذه وحدها، رفاهيّة لا يتمتّع بها اللبنانيّون.
تبدو العقوبة وكأنّها مفروضة على نادي النجمة حصراً لكنّها تُطبّق على كل الأندية


الاتحاد لبلديّة جونية: «أمرك سيدنا»
منطقياً، لم يكن ليظهر الاتحاد اللبناني بهذا الضعف في تنظيم المباريات لو كان الجمهور غائباً. لم يكن ليضطر إلى التنسيق مع القوى الأمنية، ولا مع إدارات الملعب والأندية، ولا مع موظّفيه، للخروج بمباراةٍ «نظيفة». سيكون أسهل عليه، لو غاب الجمهور كليّاً، وجلس أعضاء اللجنة التنفيذية في المنصة الرئيسية، مرتاحين، دون ضجّة. أساساً، ليس مفروضاً عليهم الحضور، لكن لفشل المنظومة، يضطر الأمين العام (وهذه ليست ضمن مهامه)، أن يتواصل مع فلان وعلان للتنظيم. الجمهور يُظهر عيوب التنظيم، ويُجرّد الاتحاد من ثوب السُّلطة، ويُظهره ضعيفاً، وهو كذلك. اكتفى الاتحاد في تعميمه الأخير، بالإشارة إلى كتابٍ من إدارة مجمّع فؤاد شهاب في جونية، بتحديد عدد الجماهير بـ700 شخص لكل نادٍ. لم يعترض، ولم يجتمع مع الأندية، ولم يبحث الأمر. بلديّة جونية تأمر. المباراة بدون جمهور، «أمرك سيدنا». المباراة بجمهور أنا أحدّد عدده، «على راسي سيدنا». المباراة لن تنطلق إلا عند إشارتي وبعد تنفيذ طلباتي، «تكرم عينك سيدنا». هذا هو الضعف بحدّ ذاته، وهو ضعفٌ لم يظهر بشكلٍ كبير عندما وضعت المدينة الرياضية في بيروت شروطها على الإتحاد اللبناني، ما دفعه إلى عدم الاعتماد على الملعب، لأنّه في ذلك الحين، كانت الخيارات مفتوحة في ملاعب أخرى، أما اليوم، فهو حبيس ملعب جونية، لأنّه الوحيد الذي يتمتّع بالإضاءة، وشرط القناة الناقلة في نقل المباريات تلفزيونياً. لن يجتمع الاتحاد لتحديد أسباب تأخّر انطلاق مباراة النجمة والعهد والعمل على حلّها. الأسباب معروفة. لن يقول إن الموظّفين سمحوا بدخول أعدادٍ أكبر من السعة الاستيعابية للمدرج المخصّص لجمهور النجمة (غاب جمهور العهد بسبب عقوبة اتحادية)، ما «كدّس» المشجعين بعضهم فوق بعض. لن يقول إن لا آلية لبيع تذاكر المباريات لديه، وإن من يسبق يلحَق، ومن يصل متأخّراً فليلجأ إلى الجسر. «السلامة العامة» هي التي تعني الاتحاد وإدارة ملعب جونية، لكن أن يتواجد عشرات المشجعين على جسرٍ حيويّ غير مغلق، فالسّلامة العامة هنا مسؤولية الأشخاص وحدهم، طالما أن لا ألواح للطاقة الشمسية على الجسر. ولن يقول أيضاً، إن لا مونة له على أجهزة القوى الأمنية لتأمين المباريات.
ظاهرياً، تبدو العقوبة وكأنّها مفروضة على نادي النجمة حصراً، لكنّها تُطبّق على كل الأندية. ماذا يعني القبول بقرار إدارة ملعب جونية بتحديد عدد المشجعين لكل نادٍ بـ700 شخص فقط؟ يعني أن الملعب بات أصغر من حيث السعة الجماهيرية من أي ملعبٍ آخر يُستخدم لمباريات دوري الدرجة الأولى، والسبب الوحيد لاعتماده لمباريات فرق القمّة، هو الإضاءة. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد اللبناني لكرة القدم، يتلقّى سنوياً، مبالغ مالية مخصّصة للملاعب من قبل الاتحاد الدولي للعبة «فيفا»، وهو يوزّعها على ملاعب عدّة. إذاً، أين الإنارة في هذه الملاعب؟ ولمَ لا يُخصّص مبلغ لكل مستلزمات الإنارة بعيداً عن التصليحات اللازمة؟ يقول رئيس الاتحاد هاشم حيدر في مقابلةٍ إعلامية على «mtv» إن الاتحاد قدّم المساعدات القادمة من «فيفا» إلى الأندية على الرغم من أنه غير مُجبر على ذلك. من المفترض، أن الأندية غير القادرة على تحمّل أعباء المشاركة في البطولة، أن تتحمّل مسؤوليتها، أو أن تُحمّل المسؤولية إلى الأحزاب التي شكّلت إداراتها، وأن تذهب هذه الأموال إلى تنظيم المباريات، وهو دور أساسي في عمل الاتحاد.
إذاً، ختام الدوري بين الأنصار والعهد، بحضور 1400 مشجع بالحد الأقصى، ومباراة «ديربي» بين النجمة والأنصار بـ700 مشجّع. هكذا تكون اللعبة الشعبية الأولى في لبنان إلى حين...